يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) ، أي : اسمه : الكلمة التي من الله «عيسى ابن مريم». فكانت بشارته بهذا النبي الكريم ، تتضمن البشارة ب «عيسى» ابن مريم ، والتصديق له ، والشهادة له بالرسالة. فهذه الكلمة من الله ، كلمة شريفة ، اختص الله بها عيسى ابن مريم ، وإلا فهي من جملة كلماته التي أوجد بها المخلوقات ، كما قال تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٥٩). وقوله : (وَسَيِّداً وَحَصُوراً) ، أي : هذا المبشر به وهو يحيى ، سيد من فضلاء الرسل وكرامهم : «والحصور» ، قيل : هو الذي لا يولد له ، ولا شهوة له في النساء ، وقيل : هو الذي عصم وحفظ من الذنوب والشهوات الضارة ، وهذا أليق المعنيين. (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) ، الذين بلغوا في الصلاح ذروته العالية.
[٤٠] (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) ، فهذان مانعان ، فمن أي طريق ـ يا رب ـ يحصل لي ذلك ، مع ما ينافي ذلك؟ (قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) ، فإنه ـ كما اقتضت حكمته جريان الأمور بأسبابها المعروفة ، فإنه قد يخرق ذلك ، لأنه الفعال لما يريد ، الذي قد انقادت الأسباب لقدرته ، ونفذت فيها مشيئته وإرادته ، فلا يتعاصى على قدرته شيء من الأسباب ، ولو بلغت في القوة ، ما بلغت.
[٤١] (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) ليحصل السرور والاستبشار ، وإن كنت ـ يا رب ـ متيقنا ما أخبرتني به ، ولكن النفس تفرح ، ويطمئن القلب إلى مقدمات الرحمة واللطف. (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً ، وَ) في هذه المدة (اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) ، أول النهار وآخره. فمنع من الكلام في هذه المدة ، فكان في هذا ، مناسبة لحصول الولد من بين الشيخ الكبير ، والمرأة العاقر. وكونه لا يقدر على مخاطبة الآدميين ، ولسانه منطلق بذكر الله ، وتسبيحه ، آية أخرى. فحينئذ حصل له الفرح والاستبشار ، وشكر الله ، وأكثر من الذكر والتسبيح بالعشايا والأبكار. وكان هذا المولود من بركات مريم بنت عمران ، على زكريا ، فإن ما منّ الله به عليها ، من ذلك الرزق الهني ، الذي يحصل بغير حساب ، ذكره وهيجه على التضرع والسؤال ، والله تعالى هو المتفضل بالسبب والمسبب ، ولكنه يقدر أمورا محبوبة على يد من يحبه ، ليرفع الله قدره ، ويعظم أجره.
[٤٢] ثم عاد تعالى إلى ذكر مريم ، وأنها بلغت في العبادة والكمال ، مبلغا عظيما ، فقال تعالى : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ) ، أي : اختارك ، ووهب لك من الصفات الجليلة ، والأخلاق الجميلة.
(وَطَهَّرَكِ) من الأخلاق الرذيلة ، (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) ، ولهذا قال صلىاللهعليهوسلم : «كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، وخديجة بنت خويلد ، وفضل عائشة على النساء ، كفضل الثريد على سائر الطعام».
[٤٣] فنادتها الملائكة عن أمر الله لها بذلك ، لتغتبط بنعم الله ، وتشكر الله ، وتقوم بحقوقه ، وتشتغل بخدمته ، ولهذا قالت الملائكة : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) ، أي : أكثري من الطاعة ، والخضوع والخشوع لربك ، وأديمي ذلك