(وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) ، أي : صلي مع المصلين ، فقامت بكل ما أمرت به ، وبرزت ، وفاقت في كمالها. ولما كانت هذه القصة وغيرها من أكبر الأدلة على رسالة محمد صلىاللهعليهوسلم ، حيث أخبر بها مفصلة محققة ، لا زيادة فيها ولا نقص ، وما ذاك إلا لأنه وحي من الله العزيز الحكيم ، لا بتعلم من الناس ـ قال تعالى ـ : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) ، حيث جاءت بها أمها ، فاختصموا أيهم يكفلها ، لأنها بنت إمامهم ومقدمهم ، وكلهم يريد الخير والأجر من الله ، حتى وصلت بهم الخصومة إلى أن اقترعوا عليها ، فألقوا أقلامهم مقترعين ، فأصابت القرعة زكريا ، رحمة من الله به وبها. فأنت ـ يا أيها الرسول ـ لم تحضر تلك الحالة لتعرفها ، فتقصها على الناس ، وإنما الله نبأك بها ، وهذا هو المقصود الأعظم من سياق القصص أنه يحصل بها العبرة ، وأعظم العبر ، الاستدلال بها على التوحيد والرسالة ، والبعث وغيرها من الأصول الكبار.
[٤٥] (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (٤٥) ، أي : له الوجاهة ، والجاه العظيم في الدنيا والآخرة عند الخلق. ومع ذلك فهو ـ عند الله ـ من المقربين ، الذين هم أقرب الخلائق إلى الله ، وأعلاهم درجة ، وهذه بشارة لا يشبهها شيء من البشارات.
[٤٦] ومن تمام هذه البشارة أنه : (يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) ، فيكون تكليمه آية من آيات الله ، ورحمة منه بأمه وبالخلق ، وكذلك يكلمهم (كَهْلاً) ، أي : في حال كهولته ، وهذا تكليم النبوة والدعوة والإرشاد. فكلامه في المهد ، فيه آيات وبراهين على صدقه ونبوته ، وبراءة أمه مما يظن بها من الظنون السيئة ، وكلامه في كهولته ، فيه نفعه العظيم للخلق ، وكونه واسطة بينهم وبين ربهم ، في وحيه ، وتبليغ دينه وشرعه. ومع ذلك فهو (مِنَ الصَّالِحِينَ) الذين أصلح الله قلوبهم بمعرفته وحبه ، وألسنتهم بالثناء عليه وذكره ، وجوارحهم بطاعته وخدمته.
[٤٧] (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) ، وهذا من الأمور المستغربة (قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) ليعلم العباد أنه على كل شيء قدير ، وأنه لا ممانع لإرادته. (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
[٤٨] (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ) ، أي : جنس الكتب السابقة ، والحكم بين الناس ، ويعطيه النبوة.
[٤٩] (وَ) يجعله (رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) ، ويؤيده بالآيات البينات ، والأدلة القاهرة حيث قال : (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) تدلكم أني رسول الله حقا. وذلك (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) ، وهو ممسوح العينين ، الذي فقد بصره وعينيه ، (وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور (لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
[٥٠] (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) ، فأيّده الله بجنسين من الآيات والبراهين والخوارق المستغربة التي لا يمكن لغير الأنبياء الإتيان بها ، والرسالة والدعوة ، والدين الذي جاء به ، وأنه دين التوراة ، ودين الأنبياء السابقين ، وهذا أكبر الأدلة على صدق الصادقين. فإنه لو كان من الكاذبين ، لخالف ما جاءت به الرسل ، ولناقضهم