الأخبار ، حسن الأحكام.
[٥٩] لما ذكر قصة مريم وعيسى ونبأهما الحق ، وأنه عبد أنعم الله عليه ، وأن من زعم أن فيه شيئا من الإلهية ، فقد كذب على الله ، وكذب جميع أنبيائه ، وكذب عيسى صلىاللهعليهوسلم ، فإن الشبهة التي عرضت لمن اتخذه إلها ، شبهة باطلة ، فلو كان لها وجه صحيح ، لكان آدم أحق منه ، فإنه خلق من دون أم ولا أب ، ومع ذلك ، فاتفق البشر كلهم ، على أنه عبد من عباد الله ، فدعوى إلهية عيسى ، بكونه خلق من أم بلا أب ، دعوى من أبطل الدعاوى.
[٦٠] وهذا هو الحق الذي لا ريب فيه ، أن عيسى ـ كما قال في نفسه : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) ، وكان قد قدم على النبي صلىاللهعليهوسلم وفد نصارى نجران ، وقد تصلبوا على باطلهم ، بعد ما أقام عليهم النبي صلىاللهعليهوسلم البراهين بأن عيسى عبد الله ورسوله ، حيث زعموا إلهيته.
[٦١] فوصلت به وبهم الحال ، إلى أن أمره الله تعالى أن يباهلهم ، فإنه قد اتضح لهم الحق ، ولكن العناد والتعصب منعاهم منه. فدعاهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى المباهلة ، بأن يحضر هو وأهله وأبناؤه ، وهم يحضرون بأهلهم وأبنائهم ، ثم يدعون الله تعالى ، أن ينزل عقوبته ولعنته على الكاذبين ، فتشاوروا هل يجيبونه إلى ذلك؟ فاتفق رأيهم أن لا يجيبوه ، لأنهم عرفوا أنه نبي الله حقا ، وأنهم ـ إن باهلوه ـ هلكوا ، هم وأولادهم وأهلوهم ، فصالحوه وبذلوا له الجزية ، وطلبوا منه الموادعة والمهادنة. فأجابهم صلىاللهعليهوسلم ولم يحرجهم ، لأنه حصل المقصود من وضوح الحق ، وتبين عنادهم حيث صمموا على الامتناع عن المباهلة ، وذلك يبرهن على أنهم كانوا ظالمين.
[٦٢ ـ ٦٣] فإن أعرضوا عن الحق بعد ما تبين لهم ، ولم يرجعوا عن ضلالاتهم ، فهم المفسدون ، والله عليم بهم ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) ، أي : الذي لا ريب فيه ، (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) ، الذي قهر بقدرته وقوته جميع الموجودات ، وأذعنت له سكان الأرض والسماوات. ومع ذلك فهو (الْحَكِيمُ) الذي يضع الأشياء مواضعها ، وينزلها منازلها.
[٦٤] هذه الآية الكريمة ، كان النبي صلىاللهعليهوسلم يكتب بها إلى ملوك أهل الكتاب ، وكان يقرأ أحيانا في الركعة الأولى من سنة الفجر : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ) ، الآية. ويقرأ بها في الركعة الآخرة من سنة الصبح ، لاشتمالها على الدعوة إلى دين واحد ، قد اتفق عليه الأنبياء والمرسلون ، واحتوت على توحيد الإلهية المبني على عبادة الله وحده ، لا شريك له ، وأن يعتقد أن البشر وجميع الخلق كلهم في طور البشرية ، لا يستحق منهم أحد شيئا من خصائص الربوبية ، ولا من نعوت الإلهية. فإن انقاد أهل الكتاب وغيرهم إلى هذا فقد اهتدوا. وإن (تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) ، كقوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) (١) إلى آخرها.
[٦٥ ـ ٦٨] كانت الأديان كلها ، اليهود والنصارى ، والمشركون ، وكذلك المسلمون كلهم ، يدعون أنهم على ملة إبراهيم. فأخبر الله تعالى أن أولى الناس به ، محمد صلىاللهعليهوسلم وأتباعه ، وأتباع الخليل ، قبل محمد صلىاللهعليهوسلم. وأما اليهود والنصارى ، والمشركون فإبراهيم بريء منهم ، ومن ولايتهم ، لأن دينه ، الحنيفية السمحة ، التي فيها الإيمان بجميع