قلوبهم من الحنق ، الموجب للانتقام بالقول والفعل ـ ، هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية ، بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ ، ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم. (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) ، يدخل في العفو عن الناس ، العفو عن كل من أساء إليك بقول ، أو فعل. والعفو أبلغ من الكظم ، لأن العفو ترك المؤاخذة ، مع السماحة عن المسيء ، وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة ، وتخلى عن الأخلاق الرذيلة ، وممن تاجر مع الله ، وعفا عن عباد الله ، رحمة بهم ، وإحسانا إليهم ، وكراهة لحصول الشر عليهم ، وليعفو الله عنه ، ويكون أجره على ربه الكريم ، لا على العبد الفقير ، كما قال تعالى : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ).
[١٣٤] ثم ذكر حالة أعم من غيرها ، وأحسن ، وأعلى ، وأجل ، وهي الإحسان ، فقال تعالى : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ، والإحسان نوعان : الإحسان في عبادة الخالق ، والإحسان إلى المخلوق. فالإحسان في عبادة الخالق ، فسرها النبي صلىاللهعليهوسلم بقوله : «أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك». وأما الإحسان إلى المخلوق ، فهو إيصال النفع الديني والدنيوي إليهم ، ودفع الشر الديني والدنيوي عنهم ، فيدخل في ذلك ، أمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ، وتعليم جاهلهم ، ووعظ غافلهم ، والنصيحة لعامتهم وخاصتهم ، والسعي في جمع كلمتهم ، وإيصال الصدقات والنفقات الواجبة والمستحبة إليهم ، على اختلاف أحوالهم ، وتباين أوصافهم. فيدخل في ذلك بذل الندى ، وكف الأذى ، واحتمال الأذى ، كما وصف الله به المتقين في هذه الآيات. فمن قام بهذه الأمور ، فقد قام بحق الله وحق عبيده.
[١٣٥] ثم ذكر اعتذارهم لربهم من جناياتهم وذنوبهم ، فقال : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) ، أي : صدر منهم أعمال سيئة كبيرة ، أو ما دون ذلك ، بادروا إلى التوبة والاستغفار ، وذكروا ربهم ، وما توعد به العاصين ، ووعد به المتقين. فسألوه المغفرة لذنوبهم ، والستر لعيوبهم ، مع إقلاعهم عنها ، وندمهم عليها فلهذا قال : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
[١٣٦] (أُولئِكَ) الموصوفون بتلك الصفات (جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) تزيل عنهم كل محذور. (وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) فيها من النعيم المقيم ، والبهجة والحبور والبهاء ، والخير والسرور ، والقصور ، والمنازل الأنيقة العاليات ، والأشجار المثمرة البهية ، والأنهار الجاريات في تلك المساكن الطيبات. (خالِدِينَ فِيها) لا يحولون عنها ، ولا يبغون بها بدلا ، ولا يغير ما هم فيه من النعيم. (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) عملوا لله قليلا فأجروا كثيرا ف «عند الصباح يحمد القوم السرى» ، وعند الجزاء يجد العامل أجره كاملا موفرا. وهذه الآيات الكريمات ، من أدلة أهل السنة والجماعة ، على أن الأعمال تدخل في الإيمان ، خلافا للمرجئة. وجه الدلالة إنما يتم بذكر الآية ، التي في سورة الحديد ، نظير هذه الآيات وهي قوله تعالى : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) ، فلم يذكر فيها إلا لفظ الإيمان به ، وبرسله ، وهنا قال : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ). ثم وصف المتقين ، بهذه الأعمال المالية والبدنية ، فدل على أن هؤلاء المتقين الموصوفين بهذه الصفات ، هم أولئك المؤمنون.