العاصي ، وليكفر الله عنكم بهذه المصيبة ، ما صدر منكم ، فلهذا قال : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ، أي : ذو فضل عظيم عليهم ، حيث منّ عليهم بالإسلام ، وهداهم لشرائعه ، وعفا عنهم سيئاتهم ، وأثابهم على مصيباتهم. ومن فضله على المؤمنين ، أن لا يقدر عليهم خيرا ولا مصيبة ، إلا كان خيرا لهم. إن أصابتهم سراء فشكروا ، جازاهم جزاء الشاكرين ، وإن أصابتهم ضراء فصبروا ، جازاهم جزاء الصابرين.
[١٥٣ ـ ١٥٤] يذكرهم تعالى حالهم ، في وقت انهزامهم عن القتال ، ويعاتبهم على ذلك ، فقال : (إِذْ تُصْعِدُونَ) ، أي : تجدون في الهرب (وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) ، أي : لا يلوي أحد منكم على أحد ، ولا ينظر إليه ، بل ليس لكم هم إلا الفرار ، والنجاء من القتال. والحال أنه ليس عليكم خطر كبير ، إذ لستم آخر الناس ، مما يلي الأعداء ، ويباشر الهيجاء ، بل (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) ، أي : مما يلي القوم يقول : «إليّ عباد الله» ، فلم تلتفتوا إليه ، ولا عرجتم عليه ، فالفرار نفسه ، موجب للوم ، ودعوة الرسول الموجبة لتقديمه على النفس ، أعظم لوما ، بتخلفكم عنها. (فَأَثابَكُمْ) ، أي : جازاكم على فعلكم (غَمًّا بِغَمٍ) ، أي : غما يتبعه غم. غم بفوات النصر وفوات الغنيمة ، وغم بانهزامكم ، وغم أنساكم كل غم ، وهو سماعكم أن محمدا صلىاللهعليهوسلم قد قتل. ولكن الله ـ بلطفه ، وحسن نظره لعباده ـ جعل اجتماع هذه الأمور لعباده المؤمنين ، خيرا لهم ، فقال : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) من النصر والظفر. (وَلا ما أَصابَكُمْ) من الهزيمة والقتل والجراح ، إذا تحققتم أن الرسول صلىاللهعليهوسلم لم يقتل ، هانت عليكم تلك المصيبات ، واغتبطتم بوجوده المسلي عن كل مصيبة ومحنة. فلله ما في ضمن البلايا والمحن ، من الأسرار والحكم. وكل هذا صادر عن علمه وكمال خبرته بأعمالكم ، وظواهركم ، وبواطنكم ، ولهذا قال : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ). ويحتمل أن معنى قوله : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ) ، يعني : أنه قدر ذلك الغم والمصيبة عليكم ، لكي تتوطن نفوسكم ، وتمرنوا على الصبر على المصيبات ، ويخف عليكم تحمل المشقات : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِ) الذي أصابكم (أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ). ولا شك أن هذا رحمة بهم ، وإحسان وتثبيت لقلوبهم ، وزيادة طمأنينة ؛ لأن الخائف لا يأتيه النعاس ، لما في قلبه من الخوف ، فإذا زال الخوف عن القلب ، أمكن أن يأتيه النعاس. وهذه الطائفة التي أنعم الله عليها بالنعاس هم المؤمنون الذين ليس لهم إلا إقامة دين الله ، ورضا الله ورسوله ، ومصلحة إخوانهم المسلمين. وأما الطائفة الأخرى الذين (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) فليس لهم هم في غيرها ، لنفاقهم ، أو ضعف إيمانهم ، فلهذا لم يصبهم من النعاس ما أصاب غيرهم ، (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) ، وهذا استفهام إنكاري ، أي : ما لنا من الأمر ، أي : النصر والظهور ـ شيء. فأساؤوا الظن بربهم ، وبدينه ، وبنبيه ، وظنوا أن الله لا يتم أمر رسوله ، وأن هذه الهزيمة ، هي الفيصلة والقاضية على دين الله. قال الله في جوابهم : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) ، الأمر يشمل الأمر القدري ، والأمر الشرعي. فجميع الأشياء بقضاء الله وقدره ، وعاقبتها النصر والظفر لأوليائه ، وأهل طاعته ، وإن جرى عليهم ما جرى. (يُخْفُونَ)