يعني المنافقين (فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ). ثم بين الأمر الذي يخفونه ، فقال : (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) ، أي : لو كان لنا في هذه الواقعة رأي ومشورة (ما قُتِلْنا هاهُنا). وهذا إنكار منهم ، وتكذيب بقدر الله ، وتسفيه منهم لرأي رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ورأي أصحابه ، وتزكية منهم ، لأنفسهم ، فرد الله عليهم بقوله : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) التي هي أبعد شيء عن مظان القتل : (لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) ، فالأسباب ـ وإن عظمت ـ إنما تنفع إذا لم يعارضها القدر والقضاء ، فإذا عارضها القدر لم تنفع شيئا ، بل لا بد أن يمضي الله ما كتب في اللوح المحفوظ ، من الموت والحياة. (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) ، أي : يختبر ما فيها من نفاق وإيمان وضعف إيمان. (وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) من وساوس الشيطان ، وما تأثر عنها من الصفات غير الحميدة. (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ، أي : بما فيها ، وما أكنته ، فاقتضى علمه وحكمته ، أن قدر من الأسباب ، ما به يظهر مخبّآت الصدور ، وسرائر الأمور.
[١٥٥] يخبر تعالى عن حال الذين انهزموا يوم «أحد» وما الذي أوجب لهم الفرار ، وأنه من تسويل الشيطان ، وأنه تسلط عليهم ببعض ذنوبهم. فهم الذين أدخلوه على أنفسهم ، ومكنوه بما فعلوا من المعاصي ، لأنها مركبه ومدخله ، فلو اعتصموا بطاعة ربهم ، لما كان له عليهم من سلطان. قال تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) ، ثم أخبر أنه عفا عنهم بعد ما فعلوا ما يوجب المؤاخذة ، وإلا فلو آخذهم لاستأصلهم. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) للمذنبين الخطائين ، بما يوفقهم له من التوبة والاستغفار ، والمصائب المكفرة ، (حَلِيمٌ) لا يعاجل من عصاه ، بل يستأني به ، ويدعوه إلى الإنابة إليه ، والإقبال عليه. ثم إن تاب وأناب قبل منه ، وصيره كأنه لم يجر منه ذنب ، ولم يصدر عنه عيب ، فلله الحمد على إحسانه.
[١٥٦] ينهى تعالى عباده المؤمنين ، أن يشابهوا الكافرين ، الذين لا يؤمنون بربهم ، ولا بقضائه وقدره ، من المنافقين وغيرهم. ينهاهم عن مشابهتهم في كل شيء ، وفي هذا الأمر الخاص ـ وهو أنهم يقولون لإخوانهم في الدين أو في النسب : (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) أي : سافروا للتجارة (أَوْ كانُوا غُزًّى) ، أي : غزاة ، ثم جرى عليهم قتل أو موت ، يعارضون القدر ويقولون : (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) وهذا كذب منهم ، فقد قال تعالى : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ). ولكن هذا التكذيب لم يفدهم ، إلا أن يجعل الله هذا القول ، وهذه العقيدة ، حسرة في قلوبهم ، فتزداد مصيبتهم. وأما المؤمنون ، فإنهم يعلمون أن ذلك بقدر الله ، فيؤمنون ويسلمون ، فيهدي الله قلوبهم ، ويثبتها ، ويخفف بذلك عنهم المصيبة. قال الله ردا عليهم : (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) ، أي : هو المنفرد بذلك ، فلا يغني حذر عن قدر. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيكم بأعمالكم وتكذيبكم.
[١٥٧ ـ ١٥٨] ثم أخبر تعالى أن القتل في سبيله أو الموت فيه ، ليس فيه نقص ولا محذور ، وإنما هو مما ينبغي أن يتنافس فيه المتنافسون ، لأنه سبب مفض ، وموصل إلى مغفرة الله ورحمته ، وذلك خير مما يجمع أهل الدنيا ، من دنياهم ، وأن الخلق أيضا إذا ماتوا أو قتلوا بأي حالة كانت ، فإنما مرجعهم إلى الله ، ومآلهم إليه ، فيجازي كلّا بعمله. فأين الفرار إلا إلى الله ، وما للخلق عاصم إلا الاعتصام بحبل الله؟
[١٥٩] أي برحمة الله لك ولأصحابك ، منّ الله عليك أن ألنت لهم جانبك ، وخفضت لهم جناحك ، وترققت عليهم ، وحسنت لهم خلقك ، فاجتمعوا عليك وأحبوك ، وامتثلوا أمرك. (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) ، أي : سيىء الخلق (غَلِيظَ الْقَلْبِ) ، أي : قاسيه ، (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) لأن هذا ينفرهم ويبغضهم لمن قام به هذا الخلق السيّء. فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدنيا ، تجذب الناس إلى دين الله ، وترغبهم فيه ، مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص ، والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين ، تنفر الناس عن الدين ، وتبغضهم إليه مع ما لصاحبها من الذم