وهن القلب ، مستدع لوهن البدن ، وذلك يضعف عن مقاومة الأعداء. بل كونوا أقوياء ، نشيطين في قتالهم. ثم ذكر ما يقوي قلوب المؤمنين ، فذكر شيئين : الأول : أن ما يصيبكم من الألم ، والتعب ، والجراح ونحو ذلك ، فإنه يصيب أعداءكم. فليس من المروءة الإنسانية ، والشهامة الإسلامية أن تكونوا أضعف منهم ، وأنتم وهم قد تساويتم فيما يوجب ذلك. لأن العادة الجارية ، أن لا يضعف ، إلا من توالت عليه الآلام وانتصر عليه الأعداء على الدوام. لا من يدال له مرة ، ويدال عليه أخرى. الأمر الثاني : أنكم ترجون من الله ما لا يرجون. فترجون الفوز بثوابه ، والنجاة من عقابه. بل خواص المؤمنين ، لهم مقاصد عالية ، وآمال رفيعة ، من نصر دين الله ، وإقامة شرعه ، واتساع دائرة الإسلام ، وهداية الضالين ، وقمع أعداء الدين. فهذه الأمور ، توجب للمؤمن المصدق ، زيادة القوة ، وتضاعف النشاط ، والشجاعة التامة ؛ لأن من يقاتل ويصبر على نيل عزه الدنيوي ، إن ناله ، ليس كمن يقاتل لنيل السعادة الدنيوية والأخروية ، والفوز برضوان الله وجنته. فسبحان من فاوت بين العباد ، وفرّق بينهم بعلمه وحكمته. ولهذا قال : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) كامل العلم ، كامل الحكمة.
[١٠٥] يخبر تعالى ، أنه أنزل على عبده ورسوله الكتاب بالحق ، أي : محفوظ في إنزاله من الشياطين ، أن يتطرق إليه منهم باطل. بل نزل بالحق ، ومشتملا أيضا على الحق. فأخباره صدق ، وأوامره ونواهيه عدل (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً). وأخبر أنه أنزله ليحكم بين الناس. وفي الآية الأخرى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ). فيحتمل أن هذه الآية ، في الحكم بين الناس ، في مسائل النزاع والاختلاف. وتلك في تبيين جميع الدين ، وأصوله ، وفروعه. ويحتمل أن الآيتين كلتيهما ، معناهما واحد. فيكون الحكم بين الناس هنا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأعراض والأموال وسائر الحقوق وفي العقائد ، وفي جميع مسائل الأحكام. وقوله : (بِما أَراكَ اللهُ) أي : لا بهواك ، بل بما علمك الله وألهمك. كقوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٤). وفي هذا دليل على عصمته صلىاللهعليهوسلم ، فيما يبلغ عن الله من جميع الأحكام وغيرها. وأنه يشترط في الحكم ، العلم والعدل لقوله :
(بِما أَراكَ اللهُ) ولم يقل : بما رأيت. ورتب أيضا ، الحكم بين الناس على معرفة الكتاب. ولما أمر الله بالحكم بين الناس المتضمن للعدل والقسط ، نهاه عن الجور والظلم ، الذي هو ضد العدل فقال : (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) أي : لا تخاصم عن من عرفت خيانته ، من مدع ما ليس له ، أو منكر حقا عليه ، سواء علم ذلك ، أو ظنه. ففي هذا دليل على تحريم الخصومة في باطل ، والنيابة عن المبطل ، في الخصومات الدينية ، والحقوق الدنيوية.
[١٠٦] ويدل مفهوم الآية على جواز الدخول في نيابة الخصومة لمن لم يعرف منه ظلم. (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) مما صدر منك ، إن صدر. (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أي : يغفر الذنب العظيم ، لمن استغفره ، وتاب إليه وأناب ، ويوفقه للعمل الصالح بعد ذلك ، الموجب لثوابه ، وزوال عقابه.
[١٠٧] (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ). «الاختيان» و «الخيانة» بمعنى الجناية ، والظلم ، والإثم ،