وهذا يشمل النهي عن المجادلة ، عن من أذنب وتوجه عليه عقوبة ، من حد أو تعزير ، فإنه لا يجادل عنه ، بدفع ما صدر منه من الخيانة ، أو بدفع ما ترتب على ذلك من العقوبة الشرعية. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً) أي : كثير الخيانة والإثم. وإذا انتفى الحب ، ثبت ضده ، وهو البغض ، وهذا كالتعليل ، للنهي المتقدم.
[١٠٨] ثم ذكر عن هؤلاء الخائنين أنهم (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ). وهذا من ضعف الإيمان ، ونقصان اليقين ، أن تكون مخافة الخلق عندهم ، أعظم من مخافة الله فيحرصون بالطرق المباحة والمحرمة ، على عدم الفضيحة عند الناس ، وهم ـ مع ذلك ـ قد بارزوا الله بالعظائم ، ولم يبالوا بنظره واطلاعه عليهم. وهو معهم بالعلم ، في جميع أحوالهم ، خصوصا في حال تبييتهم ما لا يرضيه من القول ، من تبرئة الجاني ، ورمي البريء بالجناية ، والسعي في ذلك للرسول صلىاللهعليهوسلم ، ليفعل ما بيتوه. فقد جمعوا بين عدة جنايات ، ولم يراقبوا رب الأرض والسموات ، المطلع على سرائرهم وضمائرهم ، ولهذا توعدهم تعالى بقوله : (وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) أي : قد أحاط بذلك علما. ومع هذا ، لم يعاجلهم بالعقوبة بل استأنى بهم ، وعرض عليهم التوبة وحذرهم من الإصرار على ذنبهم ، الموجب للعقوبة البليغة.
[١٠٩] (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) (١٠٩) أي : هبكم جادلتم عنهم في هذه الحياة الدنيا ، ودفع عنهم جدالكم بعض ما يحذرون من العار والفضيحة ، عند الخلق. فما ذا يغني عنهم وينفعهم؟ ومن يجادل الله عنهم يوم القيامة حين تتوجه عليهم الحجة ، وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون؟ (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (٢٥). فمن يجادل عنهم ، من يعلم السر وأخفى ، ومن أقام عليهم من الشهود ما لا يمكن معه الإنكار؟ وفي هذه الآية ، الإرشاد إلى المقابلة ، بين ما يتوهم من مصالح الدنيا المترتبة على ترك أوامر الله ، أو فعل مناهيه. وبين ما يفوت من ثواب الآخرة ، أو يحصل من عقوباتها. فيقول من أمرته نفسه بترك أمر الله ها أنت تركت أمره كسلا وتفريطا ، فما النفع الذي انتفعت به؟ وماذا فاتك من ثواب الآخرة؟ وماذا ترتب على هذا الترك من الشقاء والحرمان والخيبة والخسران؟ وكذلك إذا دعته نفسه إلى ما تشتهيه من الشهوات المحرمة ، قال لها : هبك فعلت ما اشتهيت ، فإن لذته تنقضي ، ويعقبها من الهموم ، والغموم ، والحسرات ، وفوات الثواب ، وحصول العقاب ـ ما بعضه يكفي العاقل في الإحجام عنها. وهذا من أعظم ما ينفع العبد تدبره ، وهو خاصة ، العقل الحقيقي. بخلاف من يدعي العقل ، وليس كذلك. فإنه ـ بجهله وظلمه ـ يؤثر اللذة الحاضرة ، والراحة الراهنة ، ولو ترتب عليها ما ترتب. والله المستعان.
[١١٠] ثم قال تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) أي : من تجرأ على المعاصي ، واقتحم على الإثم ، ثم استغفر الله استغفارا تاما ، يستلزم الإقرار بالذنب ، والندم عليه ، والإقلاع ، والعزم على أن لا يعود. فهذا قد وعده من لا يخلف الميعاد ، بالمغفرة والرحمة. فيغفر له ما صدر منه من الذنب ، ويزيل عنه ما ترتب عليه من النقص والعيب ، ويعيد إليه ما تقدم من الأعمال الصالحة ، ويوفقه فيما يستقبله من عمره ، ولا يجعل ذنبه حائلا عن توفيقه ، لأنه قد غفره ، وإذا غفره ، غفر ما يترتب عليه. واعلم أن عمل السوء عند الإطلاق ، يشمل سائر المعاصي ، الصغيرة والكبيرة. وسمي «سوءا» لكونه يسوء عامله بعقوبته ، ولكونه ـ في نفسه ـ سيئا ، غير حسن. وكذلك ظلم النفس عند الإطلاق ، يشمل ظلمها بالشرك ، فما دونه. ولكن عند اقتران أحدهما بالآخر ، قد يفسر كل واحد منهما ، بما يناسبه. فيفسر عمل السوء هنا ، بالظلم الذي يسوء الناس ، وهو ظلمهم ، في دمائهم ، وأموالهم وأعراضهم. ويفسر ظلم النفس ، بالظلم والمعاصي ، التي بين الله وبين عبده. وسمي ظلم النفس «ظلما» لأن نفس العبد ، ليست ملكا له ، يتصرف فيها بما يشاء. وإنما هي ، ملك لله تعالى ، قد جعلها أمانة عند العبد ، وأمره أن يقيمها على طريق العدل ، بإلزامها الصراط المستقيم ، علما وعملا ، فيسعى في تعليمها ما أمر به ، ويسعى