مقتضيات النفوس ، وغلبات الطباع ، فإن الله لا يوليه نفسه وشيطانه ، بل يتداركه بلطفه ، ويمن عليه ، بحفظه ، ويعصمه من السوء كما قال تعالى عن يوسف عليهالسلام : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) أي : بسبب إخلاصه ، صرفنا عنه السوء ، وكذلك كل مخلص ، كما يدل عليه ، عموم التعليل. وقوله : (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) أي : نعذبه فيها عذابا عظيما. (وَساءَتْ مَصِيراً) أي : مرجعا له ومآلا. وهذا الوعيد ، المترتب على الشقاق ، ومخالفة المؤمنين ، مراتب ، لا يحصيها إلا الله ، بحسب حالة الذنب ، صغرا وكبرا. وفمنه ما يخلد في النار ، ويوجب جميع الخذلان. ومنه ما هو دون ذلك ، فلعل الآية الثانية ، كالتفصيل لهذا المطلق.
[١١٦] وهو : أن الشرك ، لا يغفره الله تعالى ، لتضمنه القدح في رب العالمين ، ووحدانيته ، وتسوية المخلوق ، الذي لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، بمن هو مالك النفع والضر ، الذي ما من نعمة إلا منه ، ولا يدفع النقم إلا هو ، الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه ، والغنى التام بجميع وجوه الاعتبارات. فمن أعظم الظلم ، وأبعد الضلال ، عدم إخلاص العبادة لمن هذا شأنه وعظمته ، وصرف شيء منها للمخلوق ، الذي ليس له من صفات الكمال شيء ، ولا له من صفات الغنى شيء ، بل ليس له إلا العدم. عدم الوجود ، وعدم الكمال ، وعدم الغنى من جميع الوجوه. وأما ما دون الشرك من الذنوب والمعاصي ، فهو تحت المشيئة. إن شاء الله غفره برحمته وحكمته. وإن شاء عذب عليه ، وعاقب بعدله وحكمته. وقد استدل بهذه الآية الكريمة ، على أن إجماع هذه الأمة ، حجة ، وأنها معصومة من الخطأ. ووجه ذلك : أن الله توعد من خالف سبيل المؤمنين ، بالخذلان والنار. وسبيل المؤمنين مفرد مضاف ، يشمل سائر ما المؤمنون عليه ، من العقائد والأعمال. فإذا اتفقوا على إيجاب شيء ، أو استحبابه ، أو تحريمه ، أو كراهته ، أو إباحته ـ فهذا سبيلهم. فمن خالفهم في شيء من ذلك ، بعد انعقاد إجماعهم عليه ، فقد اتبع غير سبيلهم. ويدل على ذلك قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ). ووجه الدلالة منها ، أن الله تعالى ، أخبر أن المؤمنين من هذه الأمة ، لا يأمرون إلا بالمعروف. فإذا اتفقوا على إيجاب شيء ، أو استحبابه ، فهو مما أمروا به. فيتعين ـ بنص الآية ـ أن يكون معروفا ، ولا شيء بعد المعروف ، غير المنكر. وكذلك إذا اتفقوا على النهي عن شيء ، فهو مما نهوا عنه ، فلا يكون إلا منكرا. ومثل ذلك ، قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ). فأخبر تعالى ، أن هذه الأمة ، جعلها الله وسطا أي : عدلا خيارا ، ليكونوا شهداء على الناس ، أي : في كل شيء. فإذا شهدوا على حكم ، بأن الله أمر به ، أو نهى عنه ، أو أباحه ، فإن شهادتهم معصومة ، لكونهم عالمين بما شهدوا به عادلين في شهادتهم. فلو كان الأمر بخلاف ذلك ، لم يكونوا عادلين في شهادتهم ، ولا عالمين بها. ومثل ذلك قوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ). يفهم منها ، أن ما لم يتنازعوا فيه ، بل اتفقوا عليه ، أنهم غير مأمورين برده إلى الكتاب والسنّة. وذلك لا يكون إلا موافقا للكتاب والسنّة ، فلا يكون مخالفا.
[١١٧] فهذه الأدلة ونحوها ، تفيد القطع ، أن إجماع هذه الأمة حجة قاطعة ، ولهذا بيّن الله قبح ضلال المشركين بقوله : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) إلى (مَحِيصاً). أي : ما يدعو هؤلاء المشركون من دون الله إلا إناثا ، أي : أوثانا وأصناما ، مسميات بأسماء الإناث ، ك «العزى» و «مناة» ونحوهما. ومن المعلوم ، أن الاسم دال على المسمى. فإذا كانت أسماؤها ، أسماء مؤنثة ناقصة ، دل ذلك ، على نقص المسميات بتلك الأسماء ، وفقدها لصفات الكمال. كما أخبر الله تعالى ، في غير موضع من كتابه ، أنها لا تخلق ، ولا ترزق ، ولا تدفع عن عابديها ، بل ولا عن نفسها ؛ نفعا ولا ضرا ، ولا تنصر أنفسها ممن يريدها بسوء ، وليس لها أسماع ، ولا أبصار ، ولا أفئدة. فكيف يعبد ، من هذا وصفه ، ويترك الإخلاص لمن له الأسماء الحسنى ، والصفات العليا والحمد والكمال ، والمجد ، والجلال ، والعز ، والجمال ، والرحمة ، والبر ، والإحسان ، والانفراد بالخلق والتدبير ، والحكمة العظيمة في الأمر والتقدير؟ هل هذا إلا