من أقبح القبيح ، الدال على نقص صاحبه ، وبلوغه من الخسة والدناءة ، أدنى ما يتصوره متصور ، أو يصفه واصف؟ ومع هذا فعبادتهم ، إنما صورتها فقط ، لهذه الأوثان الناقصة. وبالحقيقة ، ما عبدوا غير الشيطان ، الذي هو عدوهم ، الذي يريد إهلاكهم ، ويسعى في ذلك بكل ما يقدر عليه ، الذي هو في غاية البعد من الله ، لعنه الله وأبعده عن رحمته. فكما أبعده الله من رحمته ، يسعى في إبعاد العباد عن رحمة الله. (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ).
[١١٨] ولهذا أخبر الله عن سعيه ، في إغواء العباد ، وتزيين الشر لهم والفساد ، وأنه قال لربه مقسما : (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) أي : مقدورا. علم اللعين ، أنه لا يقدر على إغواء جميع عباد الله ، وأن عباد الله المخلصين ، ليس له عليهم سلطان. وإنما سلطانه ، على من تولاه ، وآثر طاعته على طاعة مولاه. وأقسم في موضع آخر ليغوينهم فقال : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٤٠). فهذا الذي ظنه الخبيث وجزم به ، أخبر الله تعالى بوقوعه بقوله : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٠).
[١١٩] وهذا النصيب المفروض ، الذي أقسم ليتخذنه منهم ، ذكر ما يريده بهم ، وما يقصده لهم بقوله : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) أي : عن الصراط المستقيم ، ضلالا في العلم ، وضلالا في العمل. (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) أي : مع الإضلال ، لأمنينهم أن ينالوا ، ما ناله المهتدون. وهذا هو الغرور بعينه. فلم يقتصر على مجرد إضلالهم حتى زين لهم ، ما هم فيه من الضلال. وهذا زيادة شر إلى شرهم ، حيث عملوا أعمال أهل النار ، الموجبة للعقوبة ، وحسبوا أنها موجبة للجنة. واعتبر ذلك باليهود والنصارى ونحوهم ، فإنهم كما حكى الله عنهم. (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) ، (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) ، (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (١٠٤) الآيات. وقال تعالى عن المنافقين إنهم يقولون يوم القيامة للمؤمنين : (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ). وقوله : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) أي : بتقطيع آذانها ، وذلك كالبحيرة ، والسائبة والوصيلة ، والحام ، فنبه ببعض ذلك على جميعه. وهذا نوع من الإضلال ، يقتضي تحريم ما أحل الله ، أو تحليل ما حرّم الله. ويلتحق بذلك ، من الاعتقادات الفاسدة ، والأحكام الجائرة ، ما هو من أكبر الإضلال. (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) وهذا يتناول الخلقة الظاهرة ، بالوشم ، والوشر ، والنمص ، والتفليج للحسن ، ونحو ذلك ، مما أغواهم به الشيطان فغيروا خلقة الرحمن. وذلك يتضمن التسخط من خلقته ، والقدح في حكمته ، واعتقاد أن ما يصنعونه بأيديهم ، أحسن من خلقة الرحمن ، وعدم الرضا بتقديره وتدبيره. ويتناول أيضا تغيير الخلقة الباطنة. فإن الله تعالى خلق عباده حنفا مفطورين على قبول الحق ، وإيثاره. فجاءتهم الشياطين ، فاجتالتهم عن هذا الخلق الجميل ، وزينت لهم الشر والشرك والكفر ، والفسوق ، والعصيان. فإن كل مولود يولد على الفطرة ، ولكن أبواه ، يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه ، ونحو ذلك ، مما يغيرون به ، ما فطر الله عليه العباد ، من توحيده ، وحبه ومعرفته. فافترستهم الشياطين في هذا