الأحكام ، لا يتم ، ولا يكمل ، إلا بوجود مقتضيه ، وانتفاء موانعه. فمن ذلك ، هذا الحكم الكبير ، الذي هو الصلح. فذكر تعالى المقتضي لذلك ، ونبه على أنه خير ، والخير كل عامل يطلبه ، ويرغب فيه. فإن كان ـ مع ذلك ـ قد أمر الله به ، وحث عليه ازداد المؤمن طلبا له ، ورغبة فيه. وذكر المانع بقوله : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) أي : جبلت النفوس على الشح ، وهو : عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان ، والحرص على الحق الذي له. فالنفوس مجبولة على ذلك طبعا. أي ينبغي لكم ، أن تحرصوا على قلع هذا الخلق الدنيء ، من نفوسكم ، وتستبدلوا به ضده وهو : السماحة ، وهو بذل الحق الذي عليك ، والاقتناع ببعض الحق الذي لك. فمتى وفق الإنسان لهذا الخلق الحسن ، سهل ـ حينئذ ـ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله ، وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب. بخلاف من لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه ، فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة ، لأنه لا يرضيه إلا جميع ماله ، ولا يرضى أن يؤدي ما عليه. فإن كان خصمه مثله ، اشتد الأمر. ثم قال : (وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا) أي : تحسنوا في عبادة الخالق ، بأن يعبد العبد ربه ، كأنه يراه ، فإن لم يكن يراه ، فإنه يراه. وتحسنوا إلى المخلوقين ، بجميع طرق الإحسان ، من نفع بمال ، أو علم ، أو جاه ، أو غير ذلك. (وَتَتَّقُوا) الله ، بفعل جميع المأمورات ، وترك جميع المحظورات. أو تحسنوا بفعل المأمور ، وتتقوا بترك المحظور. (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) قد أحاط به ، علما وخبرا ، بظاهره وباطنه ، فيحفظه لكم ، ويجازيكم عليه ، أتم الجزاء.
[١٢٩] يخبر تعالى : أن الأزواج لا يستطيعون ، وليس في قدرتهم العدل التام بين النساء. وذلك ، لأن العدل :
يستلزم وجود المحبة على السواء ، والداعي على السواء ، والميل في القلب إليهن على السواء ، ثم العمل بمقتضى ذلك. وهذا متعذر غير ممكن ، فلذلك عفا الله ، عمّا لا يستطاع ونهى عمّا هو ممكن بقوله : (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) أي : لا تميلوا ميلا كثيرا ، بحيث لا تؤدون حقوقهن الواجبة. بل افعلوا ما هو باستطاعتكم في العدل. فالنفقة والكسوة ، والقسم ونحوها ، عليكم أن تعدلوا بينهن فيها. بخلاف الحب ، والوطء ونحو ذلك ، فإن الزوجة ، إذا ترك زوجها ، ما يجب لها ، صارت كالمعلقة ، التي لا زوج لها فتستريح وتستعد للتزوج ، ولا ذات زوج ، يقوم بحقوقها. (وَإِنْ تُصْلِحُوا) ما بينكم وبين زوجاتكم. وبإجبار أنفسكم على فعل ما لا تهواه النفس ، احتسابا وقياما بحق الزوجة. وتصلحوا أيضا ، فيما بينكم وبين الناس. وتصلحوا أيضا بين الناس ، فيما تنازعوا فيه. وهذا يستلزم الحث على كل طريق يوصل إلى الصلح مطلقا كما تقدم. (وَتَتَّقُوا) الله بفعل المأمور وترك المحظور ، والصبر على المقدور. (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) يغفر ما صدر منكم ، من الذنوب ، والتقصير في الحق الواجب ، ويرحمكم كما عطفتم على أزواجكم ورحمتموهن.
[١٣٠] هذه الحالة الثالثة بين الزوجين ، إذا تعذر الاتفاق ، فإنه لا بأس بالفراق. فقال : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا) أي : بطلاق ، أو فسخ ، أو خلع ، أو غير ذلك. (يُغْنِ اللهُ كُلًّا) من الزوجين (مِنْ سَعَتِهِ) أي : من فضله ،