في قوله : (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ).
[٧٥] ثم ذكر حقيقة المسيح وأمه ، الذي هو الحق ، فقال : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) أي : هذا غايته ، ومنتهى أمره ، أنه من عباد الله المرسلين ، الّذين ليس لهم من الأمر ، ولا من التشريع ، إلا ما أرسلهم به الله ، وهو من جنس الرسل قبله ، لا مزية له عليهم ، تخرجه عن البشرية ، إلى مرتبة الربوبية. (وَأُمُّهُ) مريم (صِدِّيقَةٌ) أي : هذا أيضا غايتها ، أن كانت من الصديقين ، الّذين هم أعلى الخلق رتبة بعد الأنبياء. والصديقية ، هي : العلم النافع ، المثمر لليقين ، والعمل الصالح. وهذا دليل على أن مريم ، لم تكن نبية ، بل أعلى أحوالها ، الصديقية ، وكفى بذلك فضلا وشرفا. وكذلك سائر النساء ، لم يكن منهن نبية ، لأن الله تعالى جعل النبوة في أكمل الصنفين. في الرجال ، كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ). فإذا كان عيسى عليهالسلام من جنس الأنبياء والرسل من قبله ، وأمه صديقة ، فلأي شيء اتخذهما النصارى إلهين مع الله؟ وقوله : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) دليل ظاهر ، على أنهما عبدان فقيران ، محتاجان كما يحتاج بنو آدم إلى الطعام والشراب ، فلو كانا إلهين ، لاستغنيا عن الطعام والشراب ، ولم يحتاجا إلى شيء ، فإن الإله ، هو الغني الحميد. ولما بيّن تعالى البرهان قال : (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) الموضحة للحق ، الكاشفة لليقين ، ومع هذا ، لا تفيد فيهم شيئا ، بل لا يزالون على إفكهم ، وكذبهم ، وافترائهم وذلك ظلم وعناد منهم.
[٧٦] أي : (قُلْ) لهم أيها الرسول : (أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من المخلوقين الفقراء المحتاجين. (ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) وتدعون من انفرد بالضر والنفع ، والعطاء والمنع. (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ) لجميع الأصوات ، باختلاف اللغات ، على تفنن الحاجات. (الْعَلِيمُ) بالظواهر والبواطن ، والغيب والشهادة ، والأمور الماضية والمستقبلة. فالكامل تعالى ، الذي هذه أوصافه ، هو الذي يستحق أن يفرد بجميع أنواع العبادة ، ويخلص له الدين.
[٧٧] يقول تعالى ، لنبيه صلىاللهعليهوسلم : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ) أي : لا تتجاوزوا وتتعدوا الحق إلى الباطل. وذلك كقولهم في المسيح ، ما تقدم حكايته عنهم. وكغلوهم في بعض المشايخ ، متبعين (أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) أي : تقدم ضلالهم. (وَأَضَلُّوا كَثِيراً) من الناس ، بدعوتهم إياهم إلى الدين ، الذي هم عليه. (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) أي : قصد الطريق ، فجمعوا بين الضلال والإضلال. وهؤلاء هم أئمة الضلال الّذين حذّر منهم ، ومن اتباع أهوائهم المردية ، وآرائهم المضلة.
[٧٨] ثم قال تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : طردوا وأبعدوا عن رحمة الله. (عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي : بشهادتهما وإقرارهما ، بأن الحجة قد قامت عليهم ، وعاندوها. (ذلِكَ) الكفر واللعن (بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أي : بعصيانهم لله ، وظلمهم لعباد الله ، صار سببا لكفرهم ، وبعدهم عن رحمة الله ، فإن للذنوب والظلم ، عقوبات.