ما يجب مقابلته به فاستحقوا العقاب الشديد. (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي : فسوف يرون ما استهزؤوا به ، أنه الحق والصدق ، ويبين الله للمكذبين كذبهم وافتراءهم وكانوا يستهزئون بالبعث والجنة والنار. فإذا كان يوم القيامة قيل للمكذبين : (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) (١٤). وقال تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) (٣٩).
[٦] ثمّ أمرهم أن يعتبروا بالأمم السابقة فقال : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) أي : كم تتابع إهلاكنا للأمم المكذبين ، وأمهلناهم قبل ذلك الإهلاك ، بأن (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) من الأموال والبنين والرفاهية. (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) تنبت لهم بذلك ما شاء الله ، من زروع وثمار ، يتمتعون بها ، ويتناولون منها ما يشتهون. فلم يشكروا الله على نعمه ، بل أقبلوا على الشهوات ، وألهتهم اللذات. فجاءتهم رسلهم بالبينات ، فلم يصدقوها ، بل ردوها وكذبوها (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) أي : فأهلكهم الله بذنوبهم ، وأنشأ من بعدهم قرنا آخرين. فهذه سنّة الله ودؤبه ، في الأمم السابقين واللاحقين. فاعتبروا بمن قص الله عليكم نبأهم.
[٧] هذا إخبار من الله لرسوله عن شدة عناد الكافرين ، وأنه ليس تكذيبهم لقصور فيما جئتهم به ، ولا لجهل منهم بذلك ، وإنّما ذلك ظلم وبغي ، لا حيلة لكم فيه. فقال : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) وتيقنوه (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ظلما وعدوانا (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). فأي بينة أعظم من هذه البينة ، وهذا قولهم الشنيع فيها ، حيث كابروا المحسوس ، الذي لا يمكن من له أدنى مسكة من عقل دفعه؟
[٨] (وَقالُوا) أيضا ـ تعنتا مبنيا على الجهل ، وعدم العلم بالمعقول. (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) أي : هلا أنزل مع محمد ملك ، يعاونه ويساعده على ما هو عليه بزعمهم أنه بشر ، وأن رسالة الله ، لا تكون إلا على أيدي الملائكة. قال الله ـ في بيان رحمته ولطفه بعباده ، حيث أرسل إليهم بشرا منهم يكون الإيمان بما جاء به ، عن علم ، وبصيرة ، وغيب. (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً) برسالتنا ، لكان الإيمان لا يصدر عن معرفة بالحق ولكان إيمانا بالشهادة ، الذي لا ينفع شيئا وحده. وهذا إن آمنوا ، والغالب أنهم لا يؤمنون بهذه الحالة. فلو لم يمنوا (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) بتعجيل الهلاك عليهم ، وعدم إنظارهم ، لأن هذه سنّة الله ، فيمن طلب الآيات المقترحة ، فلم يؤمن بها. فإرسال الرسول البشري إليهم ، بالآيات البينات ، التي يعلم الله أنها أصلح للعباد ، وأرفق بهم ، مع إمهال الله للكافرين والمكذبين ـ خير لهم وأنفع. فطلبهم لإنزال الملك ، شر لهم ، لو كانوا يعلمون. ومع ذلك ، فالملك لو أنزل عليهم ، وأرسل ، لم يطيقوا التلقي عنه ، ولا احتملوا ذلك ، ولا أطاقته قواهم الفانية.
[٩] (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) لأن الحكمة لا تقتضي سوى ذلك. (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) أي : ولكان الأمر ، مختلطا عليهم ، وملبوسا. وذلك بسبب ما لبسوه على أنفسهم ، فإنهم بنوا أمرهم على هذه القاعدة