يفهمون الحقائق ، ولا يفقهون المعاني. بل تعجبهم الألفاظ المزخرفة ، والعبارات المموهة ، فيعتقدون الحقّ باطلا والباطل حقا ، ولهذا قال تعالى : (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ).
[١١٣] أي : ولتميل إلى ذلك الكلام المزخرف (أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) لأن عدم إيمانهم باليوم الآخر وعدم عقولهم النافعة ، يحملهم على ذلك. (وَلِيَرْضَوْهُ) بعد أن يصغوا إليه ، فيصغون إليه أولا. فإذا مالوا إليه ، ورأوا تلك العبارات المستحسنة ، رضوه ، وزين في قلوبهم ، وصار عقيدة راسخة ، وصفة لازمة. ثمّ ينتج من ذلك ، أن يقترفوا من الأعمال والأقوال ، ما هم مقترفون. أي : يأتون من الكذب بالقول والفعل ، ما هو من لوازم تلك العقائد القبيحة. فهذه حال المفترين ، شياطين الإنس والجن ، المستجيبين لدعوتهم. وأما أهل الإيمان بالآخرة ، وأولوا العقول الوافية ، والألباب الرزينة ، فإنهم لا يغترون بتلك العبارات ، ولا تخلبهم تلك التمويهات. بل همتهم ، مصروفة إلى معرفة الحقائق ، فينظرون إلى المعاني التي يدعو إليها الدعاة. فإن كانت حقا ، قبلوها ، وانقادوا لها ، ولو كسيت عبارات رديئة ، وألفاظا غير وافية. وإن كانت باطلا ، ردوها على من قالها ، كائنا من كان ، ولو ألبست من العبارات المستحسنة ، ما هو أرق من الحرير. ومن حكمته تعالى ، في جعله للأنبياء أعداء ، وللباطل أنصارا قائمين بالدعوة إليه ، أن يحصل لعباده ، الابتلاء والامتحان ، ليتميز الصادق من الكاذب ، والعاقل من الجاهل ، والبصير من الأعمى. ومن حكمته أن في ذلك بيانا للحق ، وتوضيحا له. فإن الحقّ يستنير ويتضح ، إذا قام الباطل يصارعه ويقاومه. فإنه ـ حينئذ ـ يتبين من أدلة الحقّ ، وشواهده الدالة على صدقه وحقيقته ، ومن فساد الباطل وبطلانه ، ما هو من أكبر المطالب ، التي يتنافس فيها المتنافسون.
[١١٤] أي : قل يا أيها الرسول (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) أحاكم إليه ، وأتقيد بأوامره ونواهيه. فإن غير الله محكوم عليه ، لا حاكم. وكل تدبير وحكم للمخلوق فإنه مشتمل على النقص ، والعيب ، والجور. وإنّما الذي يجب أن يتخذ حاكما ، هو الله وحده لا شريك له ، الذي له الخلق والأمر. (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) أي : موضحا فيه الحلال والحرام ، والأحكام الشرعية ، وأصول الدين وفروعه ، الذي لا بيان فوق بيانه ، ولا برهان أجلى من برهانه ، ولا أحسن منه حكما ، ولا أقوم قيلا ، لأن أحكامه مشتملة على الحكمة والرحمة. وأهل الكتب السابقة ، من اليهود ، والنصارى ، يعترفون بذلك و (يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) ولهذا ، تواطأت الأخبار (فَلا) تشكن في ذلك ولا (تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).
[١١٥] ثمّ وصف تفصيلها فقال : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) أي : صدقا في الإخبار ، وعدلا ، في الأمر والنهي. فلا أصدق من أخبار الله التي أودعها هذا الكتاب العزيز ، ولا أعدل من أوامره ونواهيه و (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) حيث حفظها وأحكمها بأعلى أنواع الصدق ، وبغاية الحقّ. فلا يمكن تغييرها ، ولا اقتراح أحسن منها. (وَهُوَ السَّمِيعُ) لسائر الأصوات ، باختلاف اللغات على تفنن الحاجات. (الْعَلِيمُ) الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن ، والماضي والمستقبل.