من الشر والقبائح. وهؤلاء الّذين في الظلمات يعمهون ، وفي باطلهم يترددون ، غير متساوين. فمنهم : القادة ، والرؤساء ، والمتبوعون ، ومنهم : التابعون المرءوسون. والأولون ، منهم الّذين فازوا بأشقى الأحوال ، ولهذا قال : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها) أي : الرؤساء الّذين قد كبر جرمهم ، واشتد طغيانهم (لِيَمْكُرُوا فِيها) بالخديعة والدعوة إلى سبيل الشيطان ، ومحاربة الرسل وأتباعهم ، بالقول والفعل. وإنّما مكرهم وكيدهم ، يعود على أنفسهم ، لأنهم يمكرون ، ويمكر الله ، والله خير الماكرين. وكذلك يجعل الله كبار أئمة الهدى وأفاضلهم ، يناضلون هؤلاء المجرمين ، ويردون عليهم أقوالهم ويجاهدونهم في سبيل الله ، ويسلكون بذلك السبل الموصلة إلى ذلك ، ويعينهم الله ، ويسدد رأيهم ، ويثبت أقدامهم ، ويداول الأيام بينهم وبين أعدائهم ، حتى يدول الأمر في عاقبته ، بنصرهم وظهورهم ، والعاقبة للمتقين.
[١٢٤] وإنّما ثبت أكابر المجرمين على باطلهم ، وقاموا برد الحقّ الذي جاء به الرسل ، حسدا منهم وبغيا ، فقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) من النبوة والرسالة. وفي هذا اعتراض منهم على الله ، وعجب بأنفسهم ، وتكبر على الحقّ الذي أنزله على أيدي رسله ، وتحجر على فضل الله وإحسانه. فرد الله عليهم اعتراضهم الفاسد ، وأخبر أنهم لا يصلحون للخير ، ولا فيهم ما يوجب أن يكونوا من عباد الله الصالحين ، فضلا عن أن يكونوا من النبيين والمرسلين. فقال : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) فيمن علمه يصلح لها ، ويقوم بأعبائها ، وهو متصف بكل خلق جميل ، ومتبرئ من كل خلق دنيء ، أعطاه الله ما تقتضيه حكمته أصلا وتبعا. ومن لم يكن كذلك ، لم يضع أفضل مواهبه ، عند من لا يستأهله ، ولا يزكو عنده. وفي هذه الآية ، دليل على كمال حكمة الله تعالى ، لأنه ، وإن كان تعالى رحيما ، واسع الجود ، كثير الإحسان ، فإنه حكيم لا يضع جوده إلا عند أهله. ثمّ توعد المجرمين فقال : (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ) أي : إهانة وذل ، كما تكبروا على الحقّ ، أذلهم الله. (وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) أي : بسبب مكرهم ، لا ظلما منه تعالى.
[١٢٥] يقول تعالى ـ مبينا لعباده علامة سعادة العبد وهدايته ، وعلامة شقاوته وضلاله ـ : إن من انشرح صدره للإسلام ، أي : اتسع وانفسح ، فاستنار بنور الإيمان ، وحيي بضوء اليقين ، فاطمأنت بذلك نفسه ، وأحب الخير ، وطوعت له نفسه فعله ، متلذذا به ـ غير مستثقل ـ فإن هذا ، علامة ، على أن الله قد هداه ، ومنّ عليه بالتوفيق ، وسلوك أقوم الطريق. وأن علامة من يرد الله أن يضله ، أن يجعل صدره ضيقا حرجا. أي : في غاية الضيق عن الإيمان والعلم واليقين. قد انغمس قلبه في الشبهات والشهوات ، فلا يصل إليه خير ، ولا ينشرح قلبه لفعل الخير كأنه من ضيقه وشدته ، يكاد يصعد في السماء ، أي : كأنه يكلف الصعود إلى السماء ، الذي لا حيلة فيه. وهذا سببه ، عدم إيمانهم ، فهو الذي أوجب أن يجعل الله الرجس عليهم ، لأنهم سدوا على أنفسهم باب الرحمة والإحسان. وهذا ميزان لا يعول ، وطريق لا يتغير. فإن من أعطى واتقى ، وصدّق بالحسنى ، ييسره الله لليسرى. ومن بخل واستغنى وكذّب بالحسنى ، فسييسره للعسرى.
[١٢٦] أي : معتدلا ، موصلا إلى الله ، وإلى دار كرامته ، قد بينت أحكامه ، وفصّلت شرائعه ، وميّز الخير من الشر. ولكن هذا التفصيل والبيان ، ليس لكل أحد ، إنّما هو (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ). فإنهم الّذين علموا ، فانتفعوا بعلمهم ، وأعدّ لهم الجزاء الجزيل ، والأجر الجميل. فلهذا قال :
[١٢٧] (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ). وسميت الجنة دار السلام ، لسلامتها من كل عيب ، وآفة وكدر ، وهمّ وغم ، وغير ذلك من المنغصات. ويلزم من ذلك ، أن يكون نعيمها : في غاية الكمال ، ونهاية التمام ، بحيث لا يقدر على وصفه الواصفون ، ولا يتمنى فوقه المتمنون ، من نعيم الروح ، والقلب ، والبدن. ولهم فيها ، ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، وهم فيها خالدون. (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) الذي يتولى تدبيرهم وتربيتهم ، ولطف بهم في جميع