[١٣٠ ـ ١٣١] ثمّ وبّخ الله ، جميع من أعرض عن الحقّ ورده ، من الجن والإنس ، وبيّن خطأهم ، فاعترفوا بذلك ، فقال : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) الواضحات البينات ، التي فيها تفاصيل الأمر والنهي ، والخير والشر ، والوعد والوعيد. (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) ويعلمونكم أن النجاة فيه ، والفوز إنّما هو بامتثال أوامر الله ، واجتناب نواهيه ، وأن الشقاء والخسران في تضييع ذلك. فأقروا بذلك واعترفوا ، ف (قالُوا) بلى (شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) بزينتها ، وزخرفها ، ونعيمها فاطمأنوا بها ، ورضوا بها ، وألهتهم عن الآخرة. (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) فقامت عليهم حجة الله ، وعلم حينئذ ، كل أحد ، حتى هم بأنفسهم ، عدل الله فيهم. فقال لهم حاكما عليهم بالعذاب الأليم : (ادْخُلُوا فِي) جملة (أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) صنعوا كصنيعكم ، واستمتعوا بخلاقهم ، كما استمعتم ، وخاضوا بالباطل كما خضتم ، إنهم كانوا خاسرين. أي : الأولون من هؤلاء والآخرون. وأي خسران أعظم من خسران جنات النعيم ، وحرمان جوار أكرم الأكرمين؟!! ولكنهم ، وإن اشتركوا في الخسران ، فإنهم يتفاوتون في مقداره ، تفاوتا عظيما.
[١٣٢] (وَلِكُلٍ) منهم (دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) بحسب أعمالهم ، لا يجعل قليل الشر منهم ، ككثيره ، ولا التابع كالمتبوع ، ولا المرءوس كالرئيس. كما أن أهل الثواب والجنة ، وإن اشتركوا في الربح والفلاح ودخول الجنة ، فإن بينهم من الفرق ، ما لا يعلمه إلّا الله ، مع أنهم كلهم ، رضوا بما آتاهم مولاهم ، وقنعوا بما حباهم. فنسأله تعالى ، أن يجعلنا من أهل الفردوس الأعلى ، التي أعدها الله للمقربين من عباده ، والمصطفين من خلقه ، وأهل الصفوة ، أهل وداده. (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) فيجازي كلا بحسب عمله ، وبما يعلمه من مقصده. وإنّما أمر الله العباد بالأعمال الصالحة ، ونهاهم عن الأعمال السيئة ، رحمة بهم ، وقصدا لمصالحهم. وإلّا ، فهو الغني بذاته ، عن جميع مخلوقاته ، فلا تنفعه طاعة الطائعين ، كما لا تضره معصية العاصين.
[١٣٣] (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) بالإهلاك (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ). فإذا عرفتم بأنكم ، لا بد أن تنتقلوا من هذه الدار ، كما انتقل غيركم ، وترحلون منها ، وتخلونها لمن بعدكم ، كما رحل عنها من قبلكم ، وخلوها لكم. فلم اتخذتموها قرارا؟ وتوطنتم بها ، ونسيتم أنها دار ممر لا دار مقر. وأن أمامكم دارا ، هي الدار التي جمعت كل نعيم وسلمت من كل آفة ونقص؟ وهي الدار التي يسعى إليها الأولون والآخرون ، ويرتحل نحوها ، السابقون واللاحقون. التي إذا وصلوها ، فثمّ الخلود الدائم ، والإقامة اللازمة ، والغاية التي لا غاية وراءها ، والمطلوب الذي ينتهي إليه كل مطلوب ، والمرغوب الذي يضمحل دونه كل مرغوب. هنالك ، والله ، ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، ويتنافس فيه المتنافسون ، من لذة الأرواح ، وكثرة الأفراح ، ونعيم الأبدان والقلوب ، والقرب من علّام الغيوب. فلله همة ، تعلقت بتلك الكرامات ، وإرادة سمت إلى أعلى الدرجات!! وما أبخس حظ من رضي بالدون ، وأدنى همة من اختار صفقة المغبون!! ولا يستبعد المعرض