إليكم. وإما أن تعتذروا ، بعدم كمالها وتمامها ، فحصل لكم بكتابكم ، أصل الهداية وكمالها. ولهذا قال : (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) وهذا اسم جنس ، يدخل فيه كل ما يبين الحقّ. (وَهُدىً) من الضلالة (وَرَحْمَةٌ) أي : سعادة لكم في دينكم ودنياكم. فهذا يوجب لكم الانقياد لأحكامه ، والإيمان بأخباره ، وأن من لم يرفع به رأسا ، وكذّب به ، فإنه أظلم الظالمين ، ولهذا قال : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها) أي : أعرض ونأى بجانبه. (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ) الذي يسوء صاحبه ، ويشق عليه. (بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) لأنفسهم ولغيرهم ، جزاء لهم ، على عملهم السيّء (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ). وفي هذه الآيات ، دليل على أن علم القرآن ، أجلّ العلوم وأبركها ، وأوسعها وأنه به ، تحصل الهداية إلى الصراط المستقيم ، هداية تامة ، لا يحتاج معها إلى تخرص المتكلفين ، ولا إلى أفكار المتفلسفين ، ولا لغير ذلك ، من علوم الأولين والآخرين. وأن المعروف ، أنه لم ينزل جنس الكتاب ، إلا على الطائفتين ، من اليهود والنصارى. فهم أهل الكتاب عند الإطلاق ، لا يدخل فيهم سائر الطوائف. لا المجوس ، ولا غيرهم. وفيه : ما كان عليه الجاهلية ، قبل نزول القرآن ، من الجهل العظيم ، وعدم العلم بما عند أهل الكتاب ، الّذين عندهم ، مادة العلم ، وغفلتهم عن دراسة كتبهم.
[١٥٨] يقول تعالى : هل ينظر هؤلاء الّذين استمر ظلمهم وعنادهم. (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ) مقدمات العذاب ، ومقدمات الآخرة ، بأن تأتيهم (الْمَلائِكَةُ) لقبض أرواحهم. فإنهم إذا وصلوا إلى تلك الحال ، لم ينفعهم الإيمان ، ولا صالح الأعمال. (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) لفصل القضاء بين العباد ، ومجازاة المحسنين والمسيئين. (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) الدالة على قرب الساعة. (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) الخارقة للعادة ، التي يعلم بها أن الساعة قد دنت ، وأن القيامة قد اقتربت. (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) أي : إذا وجد بعض آيات الله ، لم ينفع الكافر إيمانه أن آمن ، ولا المؤمن المقصر أن يزداد خيره بعد ذلك. بل ينفعه ما كان معه من الإيمان قبل ذلك. وما كان له من الخير الموجود ، قبل أن يأتي بعض الآيات. والحكمة في هذا ظاهرة ، فإنه إنّما كان الإيمان ينفع ، إذا كان إيمانا بالغيب ، وكان اختيارا من العبد. فأما إذا وجدت الآيات ، صار الأمر شهادة ، ولم يبق للإيمان فائدة ، لأنه يشبه الإيمان الضروري ، كإيمان الغريق ، والحريق ، ونحوهما ، ممن إذا رأى الموت ، أقلع عمّا هو فيه ، كما قال تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ). وقد تكاثرت الأحاديث الصحيحة ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، أن المراد ببعض آيات الله ، طلوع الشمس من مغربها ، وأن الناس إذا رأوها ، آمنوا ، فلم ينفعهم إيمانهم ، ويغلق حينئذ ، باب التوبة. ولما كان هذا وعيدا للمكذبين بالرسل صلىاللهعليهوسلم ، منتظرا ، وهم ينتظرون بالنبي صلىاللهعليهوسلم ، وأتباعه قوارع الدهر ومصائب الأمور قال : (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) فستعلمون أينا أحق بالأمن. وفي هذه الآية ، دليل لمذهب أهل السنّة والجماعة ، في إثبات الأفعال الاختيارية لله تعالى ، كالاستواء ، والنزول ، والإتيان لله تبارك وتعالى من غير تشبيه له ، بصفات المخلوقين. وفي