(فَسَجَدُوا) كلهم أجمعون ، (إِلَّا إِبْلِيسَ) أبى أن يسجد له ، تكبرا عليه ، وإعجابا بنفسه ، فوبخه الله على ذلك وقال : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) لما خلقت بيديّ ، أي : شرفته ، وفضلته بهذه الفضيلة ، التي لم تكن لغيره ، فعصيت أمري ، وتهاونت بي؟
[١٢] (قالَ) إبليس معارضا لربه : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) ، ثم برهن على هذه الدعوى الباطلة بقوله له : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) ، وموجب هذا ، أن المخلوق من نار ، أفضل من المخلوق من طين لعلو النار على الطين ، وصعودها. وهذا القياس من أفسد الأقيسة ، فإنه باطل من عدة أوجه : منها : أنه في مقابلة أمر الله له بالسجود ، والقياس إذا عارض النص ، فإنه قياس باطل ، لأن المقصود بالقياس ، أن يكون الحكم الذي لم يأت فيه نص ، يقارب الأمور المنصوص عليها ، ويكون تابعا لها. فأما قياس يعارضها ، ويلزم من اعتباره إلغاء النصوص ، فهذا القياس من أشنع الأقيسة. ومنها : أن قوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) بمجردها كافية لنقص إبليس الخبيث. فإنه برهن على نقصه بإعجابه بنفسه ، وتكبره ، والقول على الله بلا علم. وأي نقص أعظم من هذا؟ ومنها : أنه كذب في تفضيل مادة النار على مادة الطين والتراب ، فإن مادة الطين ، فيها الخشوع ، والسكون ، والرزانة ، ومنها تظهر بركات الأرض ، من الأشجار ، وأنواع النبات ، على اختلاف أجناسه وأنواعه. وأما النار ، ففيها الخفة ، والطيش ، والإحراق.
[١٣] ولهذا لما جرى من إبليس ما جرى ، انحط من مرتبته العالية إلى أسفل السافلين ، فقال الله له : (فَاهْبِطْ مِنْها) أي من الجنة (فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) لأنها دار الطيبين الطاهرين ، فلا تليق بأخبث خلق الله وأشرّهم. (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي : المهانين الأذلين ، جزاء على كبره وعجبه ، بالإهانة والذل.
[١٤] فلما أعلن عدو الله بعداوة الله ، وعداوة آدم وذريته ، سأل الله النظرة والإمهال إلى يوم البعث ، ليتمكن من إغواء ما يقدر عليه من بني آدم.
[١٥ ـ ١٦] ولما كانت حكمة الله مقتضية لابتلاء العباد واختبارهم ، ليتبين الصادق من الكاذب ، ومن يطيعه ، ومن يطيع عدوه ، أجابه لما سأل فقال : (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ). أي : قال إبليس ـ لما أبلس ، وأيس من رحمة الله ـ (فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ) أي : للخلق (صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) أي : لألزمن الصراط ولأسعى غاية جهدي ، على صد الناس عنه ، وعدم سلوكهم إياه.
[١٧] (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) أي : من جميع الجهات والجوانب ، ومن كل طريق يتمكن فيه ، من إدراك بعض مقصوده فيهم. ولما علم الخبيث أنهم ضعفاء قد تغلب الغفلة على كثير منهم ، وكان جازما ببذل مجهوده على إغوائهم ، ظن وصدق ظنه فقال : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) فإن القيام بالشكر ، من سلوك الصراط المستقيم ، وهو يريد صدهم عنه ، وعدم قيامهم به ، قال تعالى : (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ). وإنما نبهنا الله على ما قال وعزم على فعله ، لنأخذ حذرنا ونستعد لعدونا ، ونحترز منه بعلمنا ، بالطريق