المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله. ويدخل في الإيمان بالغيب ، الإيمان بجميع ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة ، وأحوال الآخرة ، وحقائق أوصاف الله وكيفيتها ، وما أخبرت به الرسل من ذلك ، فيؤمنون بصفات الله ووجودها ، ويتيقنونها وإن لم يفهموا كيفيتها. ثم قال :
(وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) لم يقل : يفعلون الصلاة ، أو يأتون الصلاة ، لأنه لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة ، فإقامة الصلاة ، إقامتها ظاهرا بإتمام أركانها وواجباتها وشروطها ، وإقامتها باطنا بإقامة روحها ، وهو حضور القلب فيها ، وتدبر ما يقوله ويفعله منها ، فهذه الصلاة هي التي قال الله فيها : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) وهي التي يترتب عليها الثواب ، فلا ثواب للعبد من صلاته ، إلا ما عقل منها ، ويدخل في الصلاة فرائضها ونوافلها. ثم قال : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ، يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة ، والنفقة على الزوجات والأقارب ، والمماليك ، ونحو ذلك ، والنفقات المستحبة بجميع طرق الخير ، ولم يذكر المنفق عليهم ، لكثرة أسبابه وتنوع أهله ، ولأن النفقة من حيث هي قربة إلى الله ، وأتى ب «من» الدالة على التبعيض ، لينبههم أنه لم يرد منهم إلا جزءا يسيرا من أموالهم ، غير ضار لهم ولا مثقل ، بل ينتفعون هم بإنفاقه ، وينتفع به إخوانهم. وفي قوله : (رَزَقْناهُمْ) إشارة إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم ، ليست حاصلة بقوتكم وملككم ، وإنما هي رزق الله ، الذي خولكم ، وأنعم به عليكم ، فكما أنعم عليكم وفضّلكم على كثير من عباده فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم به عليكم ، وواسوا إخوانكم المعدمين. وكثيرا ما يجمع تعالى بين الصلاة والزكاة في القرآن ، لأن الصلاة متضمنة الإخلاص للمعبود ، والزكاة والنفقة متضمنة الإحسان على عبيده ، فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود ، وسعيه في نفع الخلق ، كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه ، فلا إخلاص ولا إحسان. ثم قال :
[٤] (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) وهو القرآن والسنة ، قال تعالى : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) ، فالمتقون يؤمنون بجميع ما جاء به الرسول ، ولا يفرقون بين بعض ما أنزل إليه ، فيؤمنون ببعضه ، ولا يؤمنون ببعضه ، إما بجحده أو تأويله ، على غير مراد الله ورسوله ، كما يفعل ذلك من يفعله من المبتدعة ، الذين يؤولون النصوص الدالة على خلاف قولهم ، بما حاصله عدم التصديق بمعناها ، وإن صدقوا بلفظها ، فلم يؤمنوا بها إيمانا حقيقيا. وقوله : (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) يشمل الإيمان بجميع الكتب السابقة ، ويتضمن الإيمان بالكتب الإيمان بالرسل وبما اشتملت عليه ، خصوصا التوراة والإنجيل والزبور ، وهذه خاصية المؤمنين يؤمنون بالكتب السماوية كلها ، وبجميع الرسل فلا يفرقون بين أحد منهم. ثم قال : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) ، و «الآخرة» اسم لما يكون بعد الموت ، وخصّه بالذكر بعد العموم ، لأن الإيمان باليوم الآخر ، أحد أركان الإيمان ؛ ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل ، و «اليقين» هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك ، والموجب للعمل.
[٥] (أُولئِكَ) أي : الموصوفون بتلك الصفات الحميدة (عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) أي : على هدى عظيم ، لأن