التنكير للتعظيم ، وأيّ هداية أعظم من تلك الصفات المذكورة المتضمنة للعقيدة الصحيحة والأعمال المستقيمة ، وهل الهداية في الحقيقة إلا هدايتهم وما سواها مما خالفها ، فهي ضلالة. وأتى ب «على» في هذا الموضع ، الدالة على الاستعلاء ، وفي الضلالة يأتي ب «في» كما في قوله : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) لأن صاحب الهدى مستعل بالهدى ، مرتفع به ، وصاحب الضلال منغمس فيه محتقر. ثم قال : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) والفلاح هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب ، حصر الفلاح فيهم ؛ لأنه لا سبيل إلى الفلاح إلا بسلوك سبيلهم ، وما عدا تلك السبيل فهي سبل الشقاء والهلاك والخسارة التي تفضي بسالكها إلى الهلاك ، فلهذا ، لما ذكر صفات المؤمنين حقا ، ذكر صفات الكفار المظهرين لكفرهم المعاندين للرسول فقال :
[٦ ـ ٧] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٧) ، يخبر تعالى أن الذين كفروا ، أي : اتصفوا بالكفر ، وانصبغوا به ، وصار وصفا لهم لازما ، لا يردعهم عنه رادع ، ولا ينجع فيهم وعظ ، إنهم مستمرون على كفرهم ، فسواء عليهم أأنذرتهم ، أم لم تنذرهم لا يؤمنون ، وحقيقة الكفر هو الجحود لما جاء به الرسول ، أو جحد بعضه ، فهؤلاء الكفار لا تفيدهم الدعوة إلا إقامة الحجة ، وكأن في هذا قطعا لطمع الرسول صلىاللهعليهوسلم في إيمانهم ، وأنك لا تأس عليهم ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات.
[٧] ثم ذكر الموانع المانعة لهم من الإيمان فقال : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) ، أي : طبع عليها بطابع لا يدخلها الإيمان ، ولا ينفذ فيها فلا يعون ما ينفعهم ، ولا يسمعون ما يفيدهم. (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) ، أي : غشاء وغطاء وأكنة تمنعها من النظر الذي ينفعهم ، وهذه طرق العلم والخير قد سدت عليهم ، فلا مطمع فيهم ، ولا خير يرجى عندهم ، وإنما منعوا ذلك ، وسدّت عنهم أبواب الإيمان بسبب كفرهم وجحودهم ومعاندتهم بعد ما تبين لهم الحق ، كما قال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) ، وهذا عقاب عاجل. ثم ذكر العقاب الآجل فقال : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهو عذاب النار ، وسخط الجبار المستمر الدائم.
[٨ ـ ١٠] ثم قال تعالى في وصف المنافقين الذين ظاهرهم الإسلام وباطنهم الكفر : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَ) (بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) (١٠) ، واعلم أن النفاق هو : إظهار الخير وإبطان الشر ، ويدخل في هذا التعريف النفاق الاعتقادي والنفاق العملي ، كالذي ذكره النبي صلىاللهعليهوسلم في قوله : «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان» ، وفي رواية : «وإذا خاصم فجر». وأما النفاق الاعتقادي المخرج عن دائرة الإسلام ، فهو الذي وصف الله به المنافقين في هذه السورة وغيرها ، ولم يكن النفاق موجودا قبل هجرة النبي صلىاللهعليهوسلم من مكة إلى المدينة ، ولا بعد الهجرة ، حتى كانت وقعة «بدر» وأظهر الله المؤمنين وأعزهم ، فذلّ من في المدينة ممن لم يسلم ، فأظهر الإسلام بعضهم خوفا ومخادعة ، ولتحقن دماؤهم ، وتسلم أموالهم ، فكانوا بين أظهر المسلمين في الظاهر أنهم منهم ، وفي الحقيقة ليسوا منهم. فمن لطف الله بالمؤمنين أن جلا أحوالهم ووصفهم بأوصاف يتميزون بها ، لئلا يغتر بهم المؤمنون ، ولينقمعوا أيضا عن كثير من فجورهم. وقال تعالى : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) ، فوصفهم الله بأصل النفاق فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (٨) فإنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، فأكذبهم الله بقوله : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) لأن الإيمان الحقيقي ، ما تواطأ عليه القلب واللسان ، وإنما هذا مخادعة لله ولعباده المؤمنين. والمخادعة : أن يظهر المخادع لمن يخادعه شيئا ، ويبطن خلافه لكي يتمكن من مقصوده ممن يخادع ، فهؤلاء المنافقون سلكوا مع الله وعباده هذا المسلك ، فعاد خداعهم على أنفسهم ، وهذا من العجائب ، لأن المخادع ، إما أن ينتج خداعه ويحصل له مقصوده ، أو يسلم ، لا