له ولا عليه ، وهؤلاء عاد خداعهم على أنفسهم ، وكأنهم يعملون ما يعملون من المكر لإهلاك أنفسهم وإضرارها وكيدها ؛ لأن الله تعالى لا يتضرر بخداعهم شيئا ، وعباده المؤمنون لا يضرهم كيدهم شيئا ، فلا يضر المؤمنين إن أظهر المنافقون الإيمان ، فسلمت بذلك أموالهم وحقنت دماؤهم ، وصار كيدهم في نحورهم ، وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة في الدنيا ، والحزن المستمر بسبب ما يحصل للمؤمنين من القوة والنصرة. ثم في الآخرة ، لهم العذاب الأليم الموجع المفجع ، بسبب كذبهم وكفرهم وفجورهم ، والحال أنهم ـ من جهلهم وحماقتهم ـ لا يشعرون بذلك.
[١٠] وقوله : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) المراد بالمرض هنا : مرض الشك ، والشبهات ، والنفاق ، وذلك أن القلب يعرض له مرضان يخرجانه عن صحته واعتداله : مرض الشبهات الباطلة ، ومرض الشهوات المردية ، فالكفر والنفاق ، والشكوك والبدع ، كلها من مرض الشبهات ، والزنا ، ومحبة الفواحش والمعاصي وفعلها ، من مرض الشهوات ، كما قال تعالى : (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) وهو شهوة الزنا ، والمعافى من عوفي من هذين المرضين ، فحصل له اليقين والإيمان ، والصبر عن كل معصية ، فرفل في أثواب العافية. وفي قوله عن المنافقين : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) بيان لحكمته تعالى في تقدير المعاصي على العاصين ، وأنه بسبب ذنوبهم السابقة ، يبتليهم بالمعاصي اللاحقة الموجبة لعقوباتها كما قال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) ، وقال تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) ، وقال تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) ، فعقوبة المعصية ، المعصية بعدها ، كما أن من ثواب الحسنة ، الحسنة بعدها ، قال تعالى : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً).
[١١] أي : إذا نهي هؤلاء المنافقون عن الإفساد في الأرض ، وهو العمل بالكفر والمعاصي ، ومنه إظهار سرائر المؤمنين لعدوهم وموالاتهم للكافرين : (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ، فجمعوا بين العمل بالفساد في الأرض ، وإظهار أنه ليس بإفساد بل هو إصلاح ، قلبا للحقائق وجمعا بين فعل الباطل واعتقاده حقا ، وهؤلاء أعظم جناية ممن يعمل بالمعاصي ، مع اعتقاد تحريمها ، فهذا أقرب للسلامة ، وأرجى لرجوعه. ولما كان في قولهم : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) حصر للإصلاح في جانبهم ـ وفي ضمنه أن المؤمنين ليسوا من أهل الإصلاح ـ قلب الله عليهم دعواهم بقوله :
[١٢] (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) فإنه لا أعظم إفسادا ممن كفر بآيات الله ، وصدّ عن سبيل الله وخادع الله وأولياءه ، ووالى المحاربين لله ورسوله ، وزعم ـ مع هذا ـ أن هذا إصلاح ، فهل بعد هذا الفساد فساد؟ ولكن لا يعلمون علما ينفعهم ، وإن كانوا قد علموا بذلك علما تقوم به عليهم حجة الله ، وإنما كان العمل في الأرض إفسادا ، لأنه سبب لفساد ما على وجه الأرض من الحبوب والثمار والأشجار ، والنبات ، لما يحصل فيها من الآفات التي سببها المعاصي. ولأن الإصلاح في الأرض أن تعمر بطاعة الله والإيمان به ، لهذا خلق الله الخلق ، وأسكنهم الأرض ، وأدر عليهم الأرزاق ، ليستعينوا بها على طاعته وعبادته. فإذا عمل فيها بضده ، كان سعيا فيها بالفساد ، وإخرابا لها عما خلقت له.
[١٣] أي : إذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس ، أي : كإيمان الصحابة رضي الله عنهم ، وهو الإيمان بالقلب واللسان ، قالوا ـ بزعمهم الباطل ـ أنؤمن كما آمن السفهاء؟ يعنون ـ قبّحهم الله ـ الصحابة رضي الله عنهم ، لزعمهم أن سفههم أوجب لهم الإيمان ، وترك الأوطان ، ومعاداة الكفار ، والعقل عندهم يقتضي ضد ذلك ، فنسبوهم إلى السفه ؛ وفي ضمن ذلك ، أنهم هم العقلاء أرباب الحجا والنهى. فرد الله ذلك عليهم ، وأخبر أنهم هم السفهاء على الحقيقة ، لأن حقيقة السفه ، جهل الإنسان بمصالح نفسه ، وسعيه فيما يضرها ، وهذه الصفة منطبقة عليهم ، كما أن العقل والحجا ، معرفة الإنسان بمصالح نفسه ، والسعي فيما ينفعه ، وفي دفع ما يضره ، وهذه الصفة منطبقة على الصحابة والمؤمنين. فالعبرة بالأوصاف والبرهان ، لا بالدعاوى المجردة ، والأقوال الفارغة.