[١٤] هذا من قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، وذلك أنهم إذا اجتمعوا بالمؤمنين ، أظهروا أنهم على طريقتهم ، وأنهم معهم ، فإذا خلوا إلى شياطينهم ـ أي كبرائهم ورؤسائهم بالشر ـ قالوا : إنا معكم في الحقيقة ، وإنما نحن مستهزئون بالمؤمنين بإظهارنا لهم ، أنا على طريقتهم ، فهذه حالهم الباطنة والظاهرة ، ولا يحيق المكر السيّء إلا بأهله.
[١٥] قال تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١٥) ، وهذا جزاء لهم على استهزائهم بعباده ، فمن استهزائه بهم ، أن زيّن لهم ما كانوا فيه من الشقاء والأحوال الخبيثة ، حتى ظنوا أنهم مع المؤمنين ، لما لم يسلط الله المؤمنين عليهم ، ومن استهزائه بهم يوم القيامة أن يعطيهم مع المؤمنين نورا ظاهرا ، فإذا مشى المؤمنون بنورهم ، طفىء نور المنافقين ، وبقوا في الظلمة بعد النور متحيرين ، فما أعظم اليأس بعد الطمع ، (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) (١٥) الآية. قوله : (وَيَمُدُّهُمْ) ، أي :
يزيدهم (فِي طُغْيانِهِمْ) ، أي : فجورهم وكفرهم ، (يَعْمَهُونَ) ، أي : حائرون مترددون ، وهذا من استهزائه تعالى بهم.
[١٦] ثم قال تعالى كاشفا عن حقيقة أحوالهم : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (١٦) ، (أُولئِكَ) ، أي : المنافقون الموصوفون بتلك الصفات (الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) ، أي : رغبوا في الضلالة ، رغبة المشتري في السلعة ، التي ـ من رغبته فيها ـ يبذل فيها الأموال النفيسة ، وهذا من أحسن الأمثلة ، فإنه جعل الضلالة ، التي هي غاية الشر ، كالسلعة ، وجعل الهدى ، الذي هو غاية الصلاح ، بمنزلة الثمن ، فبذلوا الهدى ، رغبة عنه في الضلالة ، رغبة فيها ، فهذه تجارتهم ، فبئس التجارة ، وهذه صفقتهم ، فبئست الصفقة. وإذا كان من يبذل دينارا في مقابلة درهم خاسرا ، فكيف من بذل جوهرة وأخذ عنها درهما؟ فكيف من بذل الهدى ...
في مقابلة الضلالة ، واختار الشقاء على السعادة ، ورغب في سافل الأمور وترك عاليها؟ فما ربحت تجارته ، بل خسر فيها أعظم خسارة. (إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ* أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) [٣٩ ـ الزمر :١٥]. وقوله : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) تحقيق لضلالهم ، وأنهم لم يحصل لهم من الهداية شيء ، فهذه أوصافهم القبيحة.
[١٧ ـ ٢٠] ثم ذكر مثلهم ، فقال : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٠) ، أي : مثلهم المطابق لما كانوا عليه ، كمثل الذي استوقد نارا ، أي : كان في ظلمة عظيمة ، وحاجة إلى النار شديدة فاستوقدها ، من غيره ، ولم تكن عنده معدة ، بل هي خارجة عنه ، فلما أضاءت النار ما حوله ، ونظر المحل الذي هو فيه ، وما فيه من المخاوف وأمنها ، وانتفع بتلك النار ،