البيان ، (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ) يضع الأشياء مواضعها ، وينزلها منازلها ، لا يأمر ، ولا ينهى ، إلا بما تقتضيه حكمته ، (خَبِيرٍ) مطلع على الظواهر والبواطن.
[٢] فإذا كان إحكامه وتفصيله من عند الله الحكيم الخبير ، فلا تسأل بعد هذا عن عظمته وجلالته واشتماله على كمال الحكمة ، وسعة الرحمة. وإنّما أنزل الله كتابه لأجل (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) أي : لأجل إخلاص الدين كلّه لله ، وأن لا يشرك به أحد من خلقه. (إِنَّنِي لَكُمْ) أيها الناس (مِنْهُ) أي : من الله ربكم (نَذِيرٌ) لمن تجرأ على المعاصي ، بعقاب الدنيا والآخرة ، (وَبَشِيرٌ) للمطيعين لله ، بثواب الدنيا والآخرة.
[٣] (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) عن ما صدر منكم من الذنوب (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) فيما تستقبلون من أعماركم بالرجوع إليه ، بالإنابة والرجوع عما يكرهه الله إلى ما يحبه ويرضاه. ثمّ ذكر ما يترتب على الاستغفار والتوبة فقال : (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) أي : يعطيكم من رزقه ما تتمتعون به وتنتفعون. (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي : إلى وقت وفاتكم (وَيُؤْتِ) منكم (كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) أي : يعطي أهل الإحسان والبر من فضله وبره ، ما هو جزاء لإحسانهم ، من حصول ما يحبون ، ودفع ما يكرهون. (وَإِنْ تَوَلَّوْا) عن ما دعوتكم إليه ، بل أعرضتم عنه ، وربما كذبتم به (فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) وهو يوم القيامة ، الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين.
[٤] (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) ليجازيكم بأعمالكم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. وفي قوله : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) كالدليل على إحياء الله الموتى ، فإنه على كل شيء قدير ، ومن جملة الأشياء إحياء الموتى ، وقد أخبر بذلك وهو أصدق القائلين ، فيجب وقوع ذلك عقلا ونقلا.
[٥] يخبر تعالى عن جهل المشركين ، وشدة ضلالهم أنهم (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) أي : يميلونها (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) أي : من الله ، فتقع صدورهم حاجبة لعلم الله ، بأحوالهم ، وبصره لهيئاتهم. قال تعالى ـ مبينا خطأهم في هذا الظن ـ (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) أي يتغطون بها ، يعلمهم في تلك الحال ، التي هي من أخفى الأشياء. بل (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) من الأقوال والأفعال (وَما يُعْلِنُونَ) منها ، بل ما هو أبلغ من ذلك وهو (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي : بما فيها من الإرادات ، والوساوس ، والأفكار ، التي لم ينطقوا بها ، سرا ولا جهرا ، فكيف تخفى عليه حالكم ، إذا ثنيتم صدوركم لتستخفوا منه. ويحتمل أن المعنى في هذا ، أن الله يذكر إعراض المكذبين للرسول ، الغافلين عن دعوته ، أنهم ـ من شدة إعراضهم ـ يثنون صدورهم ، أي : يحدودبون ، حين يرون الرسول صلىاللهعليهوسلم لئلا يراهم ، ويسمعهم دعوته ، ويعظهم بما ينفعهم ، فهل فوق هذا الإعراض شيء؟ ثمّ توعدهم بعلمه تعالى بجميع أحوالهم ، وأنهم لا يخفون عليه ، وسيجازيهم بصنيعهم.
[٦] أي : جميع ما دب على وجه الأرض ، من آدمي ، وحيوان ، بري أو بحري ، فالله تعالى قد تكفل بأرزاقهم وأقواتهم ، فرزقهم على الله. (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) أي : يعلم مستقر هذه الدواب ، وهو : المكان الذي تقيم فيه ،