وتستقر فيه ، وتأوي إليه ، ومستودعها : المكان الذي تنتقل إليه في ذهابها ومجيئها ، وعوارض أحوالها. (كُلٌ) من تفاصيل أحوالها (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي : في اللوح المحفوظ المحتوي على جميع الحوادث الواقعة ، والتي تقع في السموات والأرض. الجميع قد أحاط بها علم الله ، وجرى بها قلمه ، ونفذت فيها مشيئته ، ووسعها رزقه. فلتطمئن القلوب إلى كفاية من تكفل بأرزاقها ، وأحاط علما بذواتها ، وصفاتها.
[٧] يخبر تعالى أنه (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أولها : يوم الأحد ، وآخرها يوم الجمعة. (وَ) حين خلق السموات والأرض (كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) فوق السماء السابعة. فبعد أن خلق السموات والأرض ، استوى على عرشه ، يدبر الأمور ، ويصرفها كيف شاء من الأحكام القدرية ، والأحكام الشرعية. ولهذا قال : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أي : ليمتحنكم ، إذ خلق لكم ما في السموات والأرض ، بأمره ونهيه ، فينظر أيكم أحسن عملا. قال الفضيل بن عياض رحمهالله : أي «أخلصه وأصوبه». قيل يا أبا علي : «ما أخلصه وأصوبه»؟. فقال : إن العمل إذا كان خالصا ، ولم يكن صوابا ، لم يقبل. وإذا كان صوابا ، ولم يكن خالصا لم يقبل ، حتى يكون خالصا صوابا. والخالص : أن يكون لوجه الله ، والصواب : أن يكون متبعا فيه الشرع والسنة. وهذا كما قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٥٦). وقال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً). فالله تعالى خلق الخلق لعبادته ، ومعرفته بأسمائه وصفاته ، وأمرهم بذلك. فمن انقاد ، وأدى ما أمر به ، فهو من المفلحين ، ومن أعرض عن ذلك ، فأولئك هم الخاسرون ، ولا بد أن يجمعهم في دار ، يجازيهم فيها على ما أمرهم به ونهاهم. ولهذا ذكر الله تكذيب المشركين بالجزاء ، فقال : (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). أي : ولئن قلت لهؤلاء ، وأخبرتهم بالبعث بعد الموت ، لم يصدقوك ، بل كذبوك أشد التكذيب ، وقدحوا فيما جئت به ، وقالوا : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ألا وهو الحقّ المبين.
[٨] (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) أي : إلى وقت مقدر فاستبطأوه ، لقالوا من جهلهم وظلمهم (ما يَحْبِسُهُ). ومضمون هذا ، تكذيبهم به ، فإنهم يستدلون بعدم وقوعه بهم عاجلا ، على كذب الرسول المخبر بوقوع العذاب ، فما أبعد هذا الاستدلال (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) فيتمكنون من النظر في أمرهم. (وَحاقَ بِهِمْ) أي : أحاط بهم ونزل (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من العذاب ، حيث تهاونوا به ، حتى جزموا بكذب من جاء به.
[٩ ـ ١١] يخبر تعالى عن طبيعة الإنسان ، أنه جاهل ظالم ، بأن الله إذا أذاقه منه رحمة ، كالصحة والرزق ، والأولاد ، ونحو ذلك ، ثمّ نزعها منه ، فإنه يستسلم لليأس ، وينقاد للقنوط ، فلا يرجو ثواب الله ، ولا يخطر بباله أن الله سيردها ، أو مثلها ، أو خيرا منها عليه. وأنه إذا أذاقه رحمة من بعد ضراء مسته ، أنه يفرح ويبطر ، ويظن أنه سيدوم له ذلك الخير ويقول : (ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) أي : يفرح بما أوتي مما يوافق هوى نفسه ، فخور