يوسف ، حين أكله الذئب ، فلم يصدقهم أبوهم بذلك ، و (قالَ) : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي : زينت لكم أنفسكم أمرا قبيحا في التفريق بيني وبينه ، لأنه رأى من القرائن والأحوال ، ومن رؤيا يوسف ، التي قصها عليه ، ما دله على ما قال. (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أي : أما أنا ، فوظيفتي سأحرص على القيام بها ، وهي أني أصبر على هذه المحنة ، صبرا جميلا ، سالما من السخط والتّشكّي إلى الخلق ، وأستعين الله على ذلك ، لا على حولي وقوتي. فوعد من نفسه هذا الأمر وشكى إلى خالقه في قوله : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) لأن الشكوى إلى الخالق ، لا تنافي الصبر الجميل ، لأن النبي ، إذا وعد وفى.
[١٩ ـ ٢٠] أي : مكث يوسف في الجب ، ما مكث ، حتى (جاءَتْ سَيَّارَةٌ) أي : قافلة تريد مصر ، (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) أي : فرطهم ومقدمهم ، الذي يعس لهم المياه ، ويسبرها ويستعد لهم بتهيئة الحياض ونحو ذلك ، (فَأَدْلى) ذلك الوارد (دَلْوَهُ) فتعلق فيه يوسف عليهالسلام ، وخرج. (قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ) أي : استبشر وقال : هذا غلام نفيس ، (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) وكان إخوته قريبا منه ، فاشتراه السيارة منهم ، (بِثَمَنٍ بَخْسٍ) أي : قليل جدا ، فسره بقوله : (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ). لأنه لم يكن لهم قصد ، إلا تغييبه ، وإبعاده عن أبيه ، ولم يكن لهم قصد في أخذ ثمنه. والمعنى في هذا : أن السيارة ، لما وجدوه ، عزموا أن يسرّوا أمره ، ويجعلوه من جملة بضائعهم ، التي معهم ، حتى جاءهم إخوته ، فزعموا أنه عبد أبق منهم ، فاشتروه منهم ، بذلك الثمن ، واستوثقوا منهم فيه ، لئلا يهرب ، والله أعلم.
[٢١] أي لما ذهب به السيارة إلى مصر ، وباعوه بها ، فاشتراه عزيز مصر. فلما اشتراه ، أعجب به ، ووصى عليه امرأته وقال : (أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أي : إما أن ينفعنا كنفع العبيد ، بأنواع الخدم ، وإما أن نستمتع فيه ، استمتاعنا بأولادنا ، ولعل ذلك أنه لم يكن لهما ولد ، (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) أي : كما يسرنا له أن يشتريه عزيز مصر ، ويكرمه هذا الإكرام ، جعلنا هذا ، مقدمة لتمكينه في الأرض ، من هذا الطريق. (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) إذا بقي لا شغل له ولا همّ سوى العلم صار ذلك من أسباب تعلمه علما كثيرا ، من علم الأحكام ، وعلم التعبير ، وغير ذلك ، (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) أي : أمره تعالى نافذ ، لا يبطله مبطل ، ولا يغلبه مغالب ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). فلذلك يجري منهم ، ويصدر ، في مغالبة أحكام الله القدرية ، وهم أعجز ، وأضعف من ذلك.
[٢٢ ـ ٢٩] أي : (وَلَمَّا بَلَغَ) يوسف (أَشُدَّهُ) أي : كمال قوته المعنوية والحسية ، وصلح لأن يتحمل الأحمال الثقيلة ، من النبوة ، والرسالة ، (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) أي : جعلناه نبيا رسولا ، وعالما ربانيا ، (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) في عبادة الخالق ببذل الجهد والنصح فيها ، وإلى عباد الله ، ببذل النفع والإحسان إليهم ، نؤتيهم من جملة الجزاء على إحسانهم ، علما نافعا. ودل هذا ، على أن يوسف في مقام الإحسان ، فأعطاه الله الحكم بين الناس ، والعلم الكثير والنبوة.