هذه المحنة العظيمة ، أعظم على يوسف من محنة إخوته ، وصبره عليها ، أعظم أجرا ، لأنه صبر اختيار ، مع وجود الدواعي الكثيرة ، لوقوع الفعل ، فقدم محبة الله عليها ، وأما محنته بإخوته ، فصبره صبر اضطرار ، بمنزلة الأمراض والمكاره التي تصيب العبد بغير اختياره وليس له ملجأ إلا الصبر عليها ، طائعا أو كارها. وذلك أن يوسف عليه الصلاة والسلام ، بقي مكرما في بيت العزيز. وكان له من الجمال ، والكمال ، والبهاء ، ما أوجب ذلك ، أن (راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) أي : هو غلامها ، وتحت تدبيرها ، والمسكن واحد ، يتيسر فيه إيقاع الأمر المكروه ، من غير شعور أحد ، ولا إحساس بشر. (وَ) زادت المصيبة ، بأن (غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) وصار المحل خاليا ، وهما آمنان من دخول أحد عليهما ، بسبب تغليق الأبواب ، وقد دعته إلى نفسها (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) أي :
افعل الأمر المكروه وأقبل إليّ ، ومع هذا ، فهو غريب ، لا يحتشم مثله ، ما يحتشمه إذا كان في وطنه ، وبين معارفه ، وهو أسير تحت يدها ، وهي سيدته ، وفيها من الجمال ، ما يدعو إلى ما هنالك ، وهو شاب عزب ، وقد توعدته ، إن لم يفعل ما تأمره به ، بالسجن ، أو العذاب الأليم. فصبر عن معصية الله ، مع وجود الداعي القوي فيه ، لأنه قد هم فيها هما ، تركه لله ، وقدم مراد الله على مراد النفس الأمارة بالسوء ، ورأى من برهان ربه ـ وهو ما معه من العلم والإيمان ، الموجب ، لترك كل ما حرم الله ـ ما أوجب له البعد والانكفاف ، عن هذه المعصية الكبيرة. (قالَ مَعاذَ اللهِ) أي : أعوذ بالله ، أن أفعل هذا الفعل القبيح ، لأنه مما يسخط الله ، ويبعد عنه ، ولأنه خيانة في حق سيدي ، الذي أكرم مثواي. فلا يليق بي ، أن أقابله في أهله ، بأقبح مقابلة ، وهذا من أعظم الظلم ، والظالم لا يفلح. والحاصل أنه جعل الموانع له من هذا الفعل ، تقوى الله ، ومراعاة حق سيده ، الذي أكرمه ، وصيانة نفسه عن الظلم ، الذي لا يفلح من تعاطاه ، وكذلك ما من الله عليه ، من برهان الإيمان الذي في قلبه ، يقتضي منه امتثال الأوامر ، واجتناب الزواجر. والجامع لذلك كله ، أن الله صرف عنه السوء والفحشاء ، لأنه من عباده المخلصين له ، في عباداتهم ، الذين أخلصهم الله ، واختارهم ، واختصهم لنفسه ، وأسدى عليهم من النعم ، وصرف عنهم المكاره ، ما كانوا به من خيار خلقه. ولما امتنع من إجابة طلبها ، بعد المراودة الشديدة ، وذهب ليهرب عنها ، ويبادر إلى الخروج من الباب ، ليتخلص ، ويهرب من الفتنة ، فبادرت إليه ، وتعلقت بثوبه ، فشقت قميصه ، فلما وصلا إلى الباب ، في تلك الحال ، ألفيا سيدها ، أي : زوجها لدى الباب ، فرأى أمرا شق عليه ، فبادرت إلى الكذب ، وادعت أن المراودة قد كانت من يوسف ، وقالت : (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) ولم تقل «من فعل بأهلك سوءا» تبرئة لها ، وتبرئة له أيضا ، من الفعل. وإنما النزاع عن الإرادة ، والمراودة ، (إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : أو يعذب عذابا أليما. فبرأ نفسه ، مما رمته به ، وقال : (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) فحينئذ احتملت الحال ، صدق كل واحد منهما ، ولم يعلم أيهما. ولكن الله تعالى ، جعل للحق والصدق علامات ، وأمارات تدل عليه ، قد يعلمها العباد ، وقد لا يعلمونها. فمنّ الله في هذه القضية ، بمعرفة الصادق منهما ، تبرئة لنبيه وصفيه ، يوسف عليهالسلام ، فبعث شاهدا من أهل بيتها ، يشهد بقرينة من وجدت معه ، فهو الصادق ، فقال : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ) لأن ذلك يدل على أنه هو المقبل عليها ، المراود لها ، المعالج ، وأنها أرادت أن تدفعه عنها ، فشقت قميصه من هذا الجانب. (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٢٧) لأن ذلك ، يدل على هروبه منها ، وأنها هي التي طلبته ، فشقت قميصه من هذا الجانب. (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) عرف بذلك صدق يوسف وبراءته ، وأنها هي الكاذبة. فقال لها سيدها : (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ). وهل أعظم من هذا الكيد ، الذي برأت به نفسها ، لما أرادت وفعلت ، ورمت به نبي الله ، يوسف عليهالسلام. ثم إن سيدها لما تحقق الأمر ، قال ليوسف : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) ، أي : اترك الكلام فيه ، وتناسه ، ولا تذكره لأحد ، طلبا للستر على أهله ، (وَاسْتَغْفِرِي) أيتها المرأة (لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) فأمر يوسف بالإعراض ، وأمرها بالاستغفار والتوبة.