[٣٠ ـ ٣٥] يعني : أن الخبر اشتهر وشاع في البلد ، وتحدث به النسوة ، فجعلن يلمنها ، ويقلن : (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا) أي : هذا أمر مستقبح ، هي امرأة كبيرة القدر ، وزوجها كبير القدر ، ومع هذا ، لم تزل تراود فتاها ، الذي تحت يدها ، وفي خدمتها ـ عن نفسه ، ومع هذا فإن حبه ، بلغ من قلبها ، مبلغا عظيما. (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) ، أي : وصل حبه إلى شغاف قلبها ، وهو : باطنه وسويداؤه ، وهذا أعظم ما يكون من الحب ، (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) حيث وجدت منها هذه الحالة ، التي لا ينبغي منها ، وهي حالة تحط قدرها ، وتضعه عند الناس. وكان هذا القول منهن مكرا ، ليس المقصود به مجرد اللوم لها ، والقدح فيها ، وإنما أردن أن يتوصلن بهذا الكلام ، إلى رؤية يوسف ، الذي فتنت به امرأة العزيز ، لتحنق امرأة العزيز ، وتريهن إياه ، ليعذرنها ولهذا سماه : مكرا ، فقال : (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ) تدعوهن إلى منزلها للضيافة. (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) أي : محلا مهيأ بأنواع الفرش والوسائد ، وما يقصد بذلك من المآكل اللذيذة ، وكان في جملة ما أتت به وأحضرته ، في تلك الضيافة طعام يحتاج إلى سكين ، إما أترج ، أو غيره ، (وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) ليقطعن بها ذلك الطعام (وَقالَتِ) ليوسف : (اخْرُجْ عَلَيْهِنَ) في حالة جماله وبهائه. (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) أي : أعظمنه في صدورهن ، ورأين منظرا فائقا ، لم يشاهدن مثله ، (وَقَطَّعْنَ) من الدهش (أَيْدِيَهُنَ) بتلك السكاكين ، اللاتي معهن ، (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) أي : تنزيها لله (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) ، وذلك أن يوسف ، أعطي من الجمال الفائق ، والنور ، والبهاء ، ما كان به آية للناظرين ، وعبرة للمتأملين. فلما تقرر عندهن جمال يوسف الظاهر ، وأعجبهن غاية العجب ، وظهر منهن من العذر لامرأة العزيز ، شيء كثير ـ أرادت أن تريهن جماله الباطن ، بالعفة التامة ـ فقالت ـ معلنة لذلك ، ومبينة لحبه الشديد ،. غير مبالية ، ولأن اللوم انقطع عنها من النسوة : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) أي : امتنع وهي مقيمة على مراودته ، لم تزدها مرور الأوقات ، إلا قلقا ومحبة وشوقا لوصاله وتوقا. ولهذا قالت له بحضرتهن : (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) ، لتلجئه بهذا الوعيد إلى حصول مقصودها منه. فعند ذلك ، اعتصم يوسف بربه ، واستعان به على كيدهن. (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) وهذا يدل ، أن النسوة ، جعلن يشرن على يوسف في مطاوعة سيدته ، وجعلن يكدنه في ذلك. فاستحب السجن والعذاب الدنيوي ، على لذة حاضرة ، توجب العذاب الشديد. (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ) أي : أمل إليهن فإني ضعيف عاجز ، إن لم تدفع عني السوء ، صبوت إليهن (وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) فإن هذا جهل ، لأنه آثر لذة قليلة منغصة ، على لذات متتابعات ، وشهوات متنوعات ، في جنات النعيم. ومن آثر هذا ، على هذا ، فمن أجهل منه؟ فإن العلم والعقل ، يدعو إلى تقديم أعظم المصلحتين ، وأعظم اللذتين ، ويؤثر ، ما كان محمود العاقبة. (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ) حين دعاه (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ) فلم تزل تراوده وتستعين عليه ، بما تقدر عليه من الوسائل ، حتى آيسها ، وصرف الله عنه كيدها ، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لدعاء الداعي (الْعَلِيمُ) بنيته الصالحة ، وبنيته الضعيفة المقتضية لإمداده بمعونته ولطفه. فهذا ما نجى الله