به يوسف من هذه الفتنة الملمة ، والمحنة الشديدة ، وأما أسياده ، فإنه لما اشتهر الخبر وبان ، وصار الناس فيها ، بين عاذر ، ولائم ، وقادح. (بَدا لَهُمْ) أي : ظهر لهم (مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ) الدالة على براءته ، (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) أي : لينقطع بذلك ، الخبر ، ويتناساه الناس ، فإن الشيء إذا شاع ، لم يزل يذكر ، ويشيع ، مع وجود أسبابه ، فإذا عدمت أسبابه نسي. فرأوا أن هذا مصلحة لهم ، فأدخلوه في السجن.
[٣٦ ـ ٣٧] أي (وَ) لما دخل يوسف السجن ، كان من جملة من (دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) أي : شابان ، فرأى كل واحد منهما رؤيا ، فقصها على يوسف ليعبرها. (قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً) وذلك الخبز (تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) ، (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) أي : بتفسيره ، وما يؤول إليه أمره. وقولهما : (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي : من أهل الإحسان إلى الخلق فأحسن إلينا في تعبيرك لرؤيانا ، كما أحسنت إلى غيرنا ، فتوسلا ليوسف بإحسانه. (قالَ) لهما مجيبا لطلبهما : (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) أي : فلتطمئن قلوبكما ، فإني سأبادر إلى تعبير رؤياكما ، فلا يأتيكما غداؤكما ، أو عشاؤكما ، أول ما يجيء إليكما ، إلا نبأتكما بتأويله ، قبل أن يأتيكما. ولعل يوسف عليه الصلاة والسلام ، قصد أن يدعوهما إلى الإيمان في هذه الحال ، التي بدت حاجتهما إليه ، ليكون أنجع لدعوته ، وأقبل لهما. ثم قال : (ذلِكُما) التعبير الذي سأعبره لكما (مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) ، أي : هذا من علم الله علمنيه ، وأحسن إليّ به ، وذلك (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) ، والترك ، كما يكون للداخل في شيء ثم ينتقل عنه ، يكون لمن لم يدخل فيه أصلا. فلا يقال : إن يوسف ، كان من قبل ، على غير ملة إبراهيم.
[٣٨ ـ ٣٩] (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) ثم فسر تلك الملّة بقوله : (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) بل نفرد الله بالتوحيد ، ونخلص له الدين والعبادة. (ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ) أي : هذا من أفضل منّته وإحسانه وفضله علينا ، وعلى من هداه الله كما هدانا ، فإنه لا أفضل من منّة الله على العباد بالإسلام ، والدين القويم ، فمن قبله وانقاد له ، فهو حظه ، وقد حصل له أكبر النعم وأجل الفضائل. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) فلذلك تأتيهم المنة والإحسان ، فلا يقبلونها ، ولا يقومون لله بحق ، وفي هذا من الترغيب للطريق ، التي هو عليها ، ما لا يخفى. فإن الفتيين ـ لما تقرر عنده ، أنهما رأياه بعين التعظيم والإجلال ، وأنه محسن معلم ـ ذكر لهما أن هذه الحالة ، التي أنا عليها ، كلها من فضل الله وإحسانه ، حيث منّ علي بترك الشرك ، وباتباع ملة آبائي ، فبهذا وصلت إلى ما رأيتما ، فينبغي لكما أن تسلكا ما سلكت. ثم صرح لهما بالدعوة فقال : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٣٩) أي : أرباب عاجزة ضعيفة ، لا تنفع ولا تضر ، ولا تعطي ولا تمنع ، وهي متفرقة ، ما بين أشجار ، وأحجار ، وملائكة ، وأموات ، وغير ذلك من أنواع المعبودات ، التي يتخذها المشركون ، أذلك (خَيْرٌ أَمِ اللهُ) الذي له صفات الكمال ، (الْواحِدُ) في ذاته ، وصفاته ، وأفعاله ، فلا شريك له في شيء من ذلك. (الْقَهَّارُ) الذي انقادت الأشياء لقهره وسلطانه ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ