فيسكن كل حيوان إلى مأواه ، ويستريحون من التعب والنصب في النهار ، ثمّ إذا قضوا مأربهم من النوم ، غشي النهار الليل ، فإذا هم مصبحون ينتشرون في مصالحهم وأعمالهم في النهار. (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٧٣) ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) على المطالب الإلهية (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فيها ، وينظرون فيها نظرة اعتبار دالة على أن الذي خلقها ودبرها ، وصرفها ، هو الله الذي لا إله إلا هو ، ولا معبود سواه ، وأنه عالم الغيب والشهادة ، الرحمن الرحيم ، وأنه القادر على كل شيء ، الحكيم في كل شيء ، المحمود على ما خلقه وأمر به ، تبارك وتعالى.
[٤] (وَ) من الآيات على كمال قدرته ، وبديع صنعته ، (فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ) فيها أنواع الأشجار (مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ) وغير ذلك ، والنخيل التي بعضها (صِنْوانٌ) أي : عدة أشجار في أصل واحد ، (وَغَيْرُ صِنْوانٍ) بأن كان كل شجرة على حدتها ، والجميع (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) وأرضه واحدة (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) لونا ، وطعما ، ونفعا ، ولذة ؛ فهذه أرض طيبة ، تنبت الكلأ والعشب الكثير ، والأشجار والزروع ، وهذه أرض تلاصقها ، لا تنبت كلأ ، ولا تمسك ماء. وهذه تمسك الماء ، ولا تنبت الكلأ ، وهذه تنبت الزرع والأشجار ، ولا تنبت الكلأ ، وهذه الثمرة حلوة ، وهذه مرة ، وهذه بين ذلك. فهل هذا التنوع ، في ذاتها ، وطبيعتها؟ أم ذلك تقدير العزيز الرحيم؟ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي : لقوم لهم عقول تهديهم إلى ما ينفعهم ، وتقودهم إلى ما يرشدون به ويعقلون عن الله ، وصاياه وأوامره ونواهيه ، وأما أهل الإعراض ، وأهل البلادة فهم في ظلماتهم يعمهون ، وفي غيهم يترددون ، لا يهتدون إلى ربهم سبيلا ، ولا يعون له قيلا.
[٥] يحتمل أن معنى قوله : (وَإِنْ تَعْجَبْ) من عظمة الله تعالى ، وكثرة أدلة التوحيد ، فإن العجب ـ مع هذا ـ إنكار المكذبين ، وتكذيبهم بالبعث ، وقولهم : (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي : هذا بعيد في غاية الامتناع بزعمهم ، أنهم بعد ما كانوا ترابا ، أن الله يعيدهم ، فإنهم ـ من جهلهم ـ قاسوا قدرة الخالق بقدرة المخلوق. فلما رأوا هذا ممتنعا ، في قدرة المخلوق ، ظنوا أنه ممتنع على قدرة الخالق ، ونسوا أن الله خلقهم أول مرة ، ولم يكونوا شيئا. ويحتمل أن معناه : وإن تعجب من قولهم وتكذيبهم للبعث ، فإن ذلك من العجائب ، فإن الذي توضح له الآيات ، ويرى من الأدلة القاطعة على البعث ، ما لا يقبل الشك والريب ، ثمّ ينكر ذلك ، فإن قوله من العجائب. ولكن ذلك لا يستغرب على (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) وجحدوا وحدانيته ، وهي أظهر الأشياء وأجلاها ، (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ) المانعة لهم من الهدى (فِي أَعْناقِهِمْ) حيث دعوا إلى الإيمان ، فلم يؤمنوا ، وعرض عليهم الهدى فلم يهتدوا ، فقلبت قلوبهم وأفئدتهم ، عقوبة على أنهم لم يؤمنوا به أول مرة ، (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) لا يخرجون منها أبدا.
[٦] يخبر تعالى ، عن جهل المكذبين لرسوله ، المشركين به ، الّذين وعظوا فلم يتعظوا ، وأقيمت عليهم الأدلة ، فلم ينقادوا لها ، بل جاهروا بالإنكار ، واستدلوا بحلم الله الواحد القهار عنهم ، وعدم معاجلتهم بذنوبهم ، أنهم على حق ، وجعلوا يتعجلون الرسول بالعذاب ، ويقول قائلهم : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ). (وَ) الحال أنه (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) أي : وقائع الله وأيامه في الأمم المكذبين ، أفلا يتفكرون في حالهم ، ويتركون جهلهم ، (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) أي : لا يزال خيره إليهم ، وإحسانه ، وبره ، وعفوه نازلا إلى العباد ، وهم لا يزال شركهم ، وعصيانهم إليه صاعدا. يعصونه فيدعوهم إلى بابه ، ويجرمون ، فلا يحرمهم خيره وإحسانه. فإن تابوا إليه ، فهو حبيبهم ، لأنه يحب التوابين ، ويحب المتطهرين ، وإن لم يتوبوا ، فهو طبيبهم ، يبتليهم بالمصائب ، ليطهرهم من المعايب : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَ