ويرجع الضالون ، وتقوم الحجة على المعاندين ؛ لأن الله فصل آياته ، وأوضح بيناته ، ليميز الحق من الباطل ، ولتستبين سبيل المجرمين ، فمن عمل بهذا من أهل العلم ، فهو من خلفاء الرسل وهداة الأمم. ومن لبس الحق بالباطل ، فلم يميز هذا من هذا ، مع علمه بذلك ، وكتم الحق الذي يعلمه ، وأمر بإظهاره ، فهو من دعاة جهنم ، لأن الناس لا يقتدون في أمر دينهم بغير علمائهم ، فاختاروا لأنفسكم إحدى الحالتين. ثم قال :
[٤٣] (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، أي : ظاهرا وباطنا (وَآتُوا الزَّكاةَ) مستحقيها ، (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) ، أي : صلوا مع المصلين ، فإنكم إذا فعلتم ذلك مع الإيمان برسل الله وآيات الله ، فقد جمعتم بين الأعمال الظاهرة والباطنة ، وبين الإخلاص للمعبود ، والإحسان إلى عبيده وبين العبادات القلبية والبدنية والمالية. وقوله : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) ، أي : صلوا مع المصلين ، ففيه الأمر بالجماعة للصلاة ووجوبها ، وفيه أن الركوع ركن من أركان الصلاة لأنه عبّر عن الصلاة بالركوع ، والتعبير عن العبادة بجزئها يدل على فرضيته فيها.
[٤٤] (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) ، أي : بالإيمان والخير (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) ، أي : تتركونها عن أمرها بذلك ، والحال : (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) ، وسمي العقل عقلا لأنه يعقل به ما ينفعه من الخير ، وينعقل به عما يضره ، وذلك أن العقل يحث صاحبه أن يكون أول فاعل لما يأمر به ، وأول تارك لما ينهى عنه ، فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله ، أو نهاه عن الشر فلم يتركه ، دل على عدم عقله وجهله ، خصوصا إذا كان عالما بذلك ، فقد قامت عليه الحجة. وهذه الآية ، وإن كانت نزلت في سبب بني إسرائيل ، فهي عامة لكل أحد لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) (٣) ، وليس في الآية أن الإنسان إذا لم يقم بما أمر به أنه يترك الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين ، وإلا فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين : أمر غيره ونهيه ، وأمر نفسه ونهيها ، فترك أحدهما لا يكون رخصة في ترك الآخر ، فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين ، والنقص الكامل أن يتركهما ، وأما قيامه بأحدهما دون الآخر ، فليس في رتبة الأول ، وهو دون الأخير ، وأيضا فإن النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله ، فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة.
[٤٥] (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) أمرهم الله أن يستعينوا في أمورهم كلها بالصبر بجميع أنواعه ، وهو الصبر عن معصية الله حتى يتركها ، والصبر على أقدار الله المؤلمة فلا يتسخطها ، فبالصبر وحبس النفس على ما أمر الله بالصبر عليه معونة عظيمة على كل أمر من الأمور ، ومن يتصبر يصبره الله ، وكذلك الصلاة ، التي هي ميزان الإيمان ، وتنهى عن الفحشاء والمنكر ، يستعان بها على كل أمر من الأمور (وَإِنَّها) أي : الصلاة (لَكَبِيرَةٌ) ، أي : شاقة (إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) فإنها سهلة عليهم ، لأن الخشوع ، وخشية الله ، ورجاء ما عنده ، يوجب له فعلها ، منشرحا صدره ، لترقبه للثواب ، وخشيته من العقاب بخلاف من لم يكن كذلك ، فإنه لا داعي له يدعوه إليها ، وإذا فعلها صارت من