أثقل الأشياء عليه. والخشوع هو : خضوع القلب وطمأنينته ، وسكونه لله تعالى ، وانكساره بين يديه ، ذلا وافتقارا ، وإيمانا به وبلقائه.
[٤٦] ولهذا قال : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ) ، أي : يستيقنون (أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) فيجازيهم بأعمالهم (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، فهذا الذي خفف عليهم العبادات وأوجب لهم التسلي في المصيبات ، ونفس عنهم الكربات ، وزجرهم عن فعل السيئات ، فهؤلاء لهم النعيم المقيم في الغرفات العاليات ، ومن لم يؤمن بلقاء ربه ، كانت الصلاة وغيرها من العبادات من أشق شيء عليه. ثم كرر على بني إسرائيل التذكير بنعمته ، وعظا لهم ، وتحذيرا وحثّا.
[٤٨] وخوّفهم بيوم القيامة الذي (لا تَجْزِي) فيه ، أي : لا تغني (نَفْسٌ) ولو كانت من الأنفس الكريمة كالأنبياء والصالحين (عَنْ نَفْسٍ) ولو كانت من العشيرة الأقربين (شَيْئاً) لا كبيرا ولا صغيرا ، وإنما ينفع الإنسان عمله الذي قدمه ، (وَلا يُقْبَلُ مِنْها) ، أي : النفس ، (شَفاعَةٌ) لأحد بدون إذن الله ورضاه عن المشفوع له ، ولا يرضى من العمل إلا ما أريد به وجهه ، وكان على السبيل والسنة ، (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) ، أي : فداء (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ) ولا يقبل منهم ذلك (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ، أي : يدفع عنهم المكروه ، فنفى الانتفاع من الخلق بوجه من الوجوه. فقوله : (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) هذا في تحصيل المنافع ، (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) هذا في دفع المضار ، فهذا النفي للأمر المستقبل به النافع. ولا تقبل منها شفاعة ، ولا يؤخذ منها عدل ، هذا نفي للنفع الذي يطلب ممن يملكه بعوض كالعدل ، أو بغيره كالشفاعة ، فهذا يوجب للعبد أن ينقطع قلبه من التعلق بالمخلوقين ، لعلمه أنهم لا يملكون له مثقال ذرة من النفع ، وأن يعلقه بالله الذي يجلب المنافع ، ويدفع المضار ، فيعبده وحده لا شريك له ، ويستعين على عبادته.
[٤٩] هذا شروع في تعداد نعمه على بني إسرائيل على وجه التفصيل ، فقال : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) ، أي : من فرعون وملئه وجنوده ، وكانوا قبل ذلك (يَسُومُونَكُمْ) ، أي : يولونهم ويستعملونهم (والمعنى يذيقونكم) ، (سُوءَ الْعَذابِ) ، أي : أشدّه بأن كانوا (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) خشية نموكم (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) ، أي : فلا يقتلونهن ، فأنتم بين قتيل ومذلل بالأعمال الشاقة ، مستحي على وجه المنة عليه والاستعلاء عليه فهذا غاية الإهانة ، فمنّ الله عليهم بالنجاة التامة وإغراق عدوهم وهم ينظرون لتقرّ أعينهم. (وَفِي ذلِكُمْ) ، أي : الإنجاء (بَلاءٌ) ، أي : إحسان (مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) ، فهذا مما يوجب عليكم الشكر والقيام بأوامره.
[٥١] ثم ذكر منته عليهم بوعده لموسى أربعين ليلة لينزل عليهم التوراة المتضمنة للنعم العظيمة والمصالح العميمة ، ثم إنهم لم يصبروا قبل استكمال الميعاد حتى عبدوا العجل من بعده ، أي : ذهابه. (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) تعلمون بظلمكم ، قد قامت عليكم الحجة ، فهو أعظم جرما وأكبر إثما.
[٥٢ ـ ٥٤] ثم إنه أمركم بالتوبة على لسان نبيه موسى بأن يقتل بعضكم بعضا ، فعفا الله عنكم بسبب ذلك (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله.
[٥٥] (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) ، وهذا غاية الجرأة على الله وعلى رسوله ، (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) : إما الموت ، أو الغشية العظيمة ، (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) وقوع ذلك ، كل ينظر إلى صاحبه.
[٥٦] (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٥٦).
[٥٧] ثم ذكر نعمته عليهم في التيه والبرية الخالية من الظلال وسعة الأرزاق فقال : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَ) وهو اسم جامع لكل رزق يحصل بلا تعب ، ومنه الزنجبيل والكمأة والخبز وغير ذلك ، (وَالسَّلْوى) طائر صغير يقال له السمانى ، طيب اللحم ، فكان ينزل عليهم من المن والسلوى ما يكفيهم ويقيتهم (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) ، أي : رزقا لا يحصل نظيره لأهل المدن المترفهين ، فلم يشكروا هذه النعمة ، واستمروا