والباطنة ، قد غمره بنعمه الغزيرة ، حتى إذا استتم ، فخر بنفسه وأعجب بها (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) ، يحتمل أن المراد : فإذا هو خصيم لربه ، يكفر به ، ويجادل رسله ، ويكذب بآياته. ونسي خلقه الأول ، وما أنعم الله عليه به ، من النعم ، فاستعان بها على معاصيه ، ويحتمل أن المعنى : أن الله أنشأ الآدمي من نطفة ، ثم لم يزل ينقله من طور إلى طور ، حتى صار عاقلا متكلما ، ذا ذهن ورأي ، يخاصم ويجادل ، فليشكر العبد ربه الذي أوصله إلى هذه الحال ، التي ليس في إمكانه القدرة على شيء منها. (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ) أي : لأجلكم ، ولأجل منافعكم ومصالحكم ، ومن جملة منافعها العظيمة (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) مما تتخذون من أصوافها وأوبارها ، وأشعارها ، وجلودها ، من الثياب ، والفرش ، والبيوت. (وَ) لكم فيها (مَنافِعُ) غير ذلك (وَمِنْها تَأْكُلُونَ).
[٦ ـ ٧] (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) (٦) أي : في وقت رواحها وسكونها ، ووقت حركتها وسرحها ، وذلك أن جمالها ، لا يعود إليها منه شيء ، فإنكم أنتم الذين تتجملون بها ، بثيابكم ، وأولادكم ، وأموالكم ، وتعجبون بذلك ، (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) من الأحمال الثقيلة ، بل وتحملكم أنتم (إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) ولكن الله ذللها لكم. فمنها ما تركبونه ، ومنها ما تحملون عليه ما تشاؤون ، من الأثقال ، إلى البلدان البعيدة ، والأقطار الشاسعة ، (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) إنه سخر لكم ما تضطرون إليه وتحتاجونه ، فله الحمد ، كما ينبغي لجلال وجهه ، وعظيم سلطانه ، وسعة جوده وبره.
[٨] (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ) سخرناها لكم (لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) ، أي : تارة تستعملونها للضرورة في الركوب ، وتارة لأجل الجمال والزينة ، ولم يذكر الأكل ، لأن البغال والحمير ، محرم أكلها ، والخيل لا تستعمل ـ في الغالب ـ للأكل ، بل ينهى عن ذبحها لأجل الأكل ، خوفا من انقطاعها ، وإلا فقد ثبت في الصحيحين ، أن النبي صلىاللهعليهوسلم ، أذن في لحوم الخيل. (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) مما يكون بعد نزول القرآن من الأشياء ، التي يركبها الخلق في البر ، والبحر ، والجو ، ويستعملونها في منافعهم ومصالحهم فإنه لم يذكرها بأعيانها ، لأن الله تعالى لم يذكر في كتابه ، إلا ما يعرفه العباد ، أو يعرفون نظيره. وأما ما ليس له نظير في زمانهم ، فإنه لو ذكر لم يعرفوه ، ولم يفهموا المراد به. فيذكر أصلا جامعا ، يدخل فيه ما يعلمون ، وما لا يعلمون. كما ذكر نعيم الجنة ، وسمى منه ما نعلم ونشاهد نظيره ، كالنخل والأعناب والرمان ، وأجمل ما لا نعرف له نظيرا في قوله : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) (٥٢). فكذلك هنا ، ذكر ما نعرفه ، من المراكب ، كالخيل ، والبغال ، والحمير ، والإبل ، والسفن ، وأجمل الباقي في قوله : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ). ولما ذكر تعالى ، الطريق الحسنى ، وأن الله قد جعل للعباد ما يقطعونه به من الإبل وغيرها ، ذكر الطريق المعنوي الموصل إليه فقال :
[٩] (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) أي : الصراط المستقيم ، الذي هو أقرب الطرق وأخصرها ، موصل إلى الله ، وإلى كرامته. وأما الطريق الجائر في عقائده وأعماله ، وهو : كل ما خالف الصراط المستقيم ، فهو قاطع عن الله ، موصل إلى دار الشقاء ، فسلك المهتدون الصراط المستقيم بإذن ربهم ، وضل الغاوون عنه ، وسلكوا الطرق الجائرة ، (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) ولكنه هدى بعضا ، كرما وفضلا ، ولم يهد آخرين ، حكمة منه وعدلا.
[١٠ ـ ١١] ينبه الله تعالى بهذه الآية الإنسان على عظمة قدرته وحثهم على التفكير حيث ختمها بقوله : (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) على كمال قدرة الله ، الذي أنزل هذا الماء من السحاب الرقيق اللطيف ، ورحمته ، حيث جعل فيه ماء غزيرا منه يشربون ، وتشرب مواشيهم ، ويسقون منه حروثهم ، فتخرج لهم الثمرات الكثيرة ، والنعم الغزيرة.
[١٢] أي : سخر لكم هذه الأشياء لمنافعكم ، وأنواع مصالحكم ، بحيث لا تستغنون عنها أبدا ، فبالليل تسكنون وتنامون ، وتستريحون ، وبالنهار تنتشرون في معايشكم ومنافع دينكم ودنياكم ، وبالشمس والقمر ، من الضياء ،