ففيه التنويه بالثناء على نوح عليهالسلام ، بقيامه بشكر الله ، واتصافه بذلك ، والحث لذريته ، أن يقتدوا به في شكره ويتابعوه عليه ، وأن يتذاكروا نعمة الله عليهم ، إذ أبقاهم واستخلفهم في الأرض ، وأغرق غيرهم.
[٤] (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : تقدمنا وعهدنا إليهم ، وأخبرناهم في كتابهم ، أنهم لا بد أن يقع منهم إفساد في الأرض مرتين بعمل المعاصي ، والبطر لنعم الله ، والعلو في الأرض والتكبر فيها ، وأنه إذا وقع واحدة منهما ، سلط الله عليهم الأعداء ، وانتقم منهم ، وهذا تحذير لهم وإنذار ، لعلهم يرجعون فيتذكرون.
[٥] (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) أي : أولى المرتين اللتين يفسدون فيهما. أي : إذا وقع منهم ذلك الفساد (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ) بعثا قدريا ، وسلطنا عليكم تسليطا كونيا جزائيا (عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي : ذوي شجاعة وعدد وعدة فنصرهم الله عليكم ، فقتلوكم وسبوا أولادكم ، ونهبوا أموالكم. (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) وهتكوا الدور ، ودخلوا المسجد الحرام ، وأفسدوه. (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) لا بد من وقوعه ، لوجود سببه منهم. واختلف المفسرون في تعيين هؤلاء المسلطين ، إلا أنهم اتفقوا على أنهم قوم كفار ، إما من أهل العراق ، أو الجزيرة ، أو غيرها سلطهم الله على بني إسرائيل ، لما كثرت فيهم المعاصي ، وتركوا كثيرا من شريعتهم ، وطغوا في الأرض.
[٦] (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) أي : على هؤلاء الّذين سلطوا عليكم ، فأجليتموهم من دياركم. (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) أي : أكثرنا أرزاقكم ، وكثرناكم ، وقويناكم عليهم ، (وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) منهم ، وذلك بسبب إحسانكم وخضوعكم لله.
[٧] (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) لأن النفع عائد إليكم ، حتى في الدنيا كما شاهدتم من انتصاركم على أعدائكم. (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) أي : فلأنفسكم يعود الضرر كما أراكم الله ، من تسليط الأعداء. [(فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي : المرة الأخرى التي تفسدون فيها في الأرض ، سلطنا عليكم الأعداء] (١). (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) بانتصارهم عليكم وسبيكم (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) والمراد بالمسجد ، مسجد بيت المقدس. (وَلِيُتَبِّرُوا) أي : يخربوا ويدمروا (ما عَلَوْا) عليه (تَتْبِيراً) فيخربوا بيوتكم ، ومساجدكم ، وحروثكم.
[٨] (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) فيديل لكم الكرة عليهم. فرحمهم ، وجعل لهم الدولة. وتوعدهم على المعاصي فقال : (وَإِنْ عُدْتُمْ) إلى الإفساد في الأرض (عُدْنا) إلى عقوبتكم. فعادوا لذلك ، فسلط الله عليهم رسوله ، محمدا صلىاللهعليهوسلم ، فانتقم الله به منهم ، فهذا جزاء الدنيا ، وما عند الله من النكال ، أعظم وأشنع ، ولهذا قال : (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) يصلونها ، ويلازمونها ، لا يخرجون منها أبدا. وفي هذه الآيات التحذير لهذه الأمة ، من العمل بالمعاصي لئلا يصيبهم ، ما أصاب بني إسرائيل. فسنة الله واحدة ، لا تبدل ولا تغير. ومن نظر إلى تسليط الكفرة
__________________
(١) سقط من المطبوعة التي بين أيدينا ، وهو موافق للسياق.