والباطنة ، الدافع لجميع النقم ، الخالق ، الرازق ، المدبر لجميع الأمور ، فهو المتفرد بذلك كلّه ، وغيره ليس له من ذلك شيء. ثم ذكر بعد حقه القيام بحق الوالدين فقال : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي : أحسنوا إليهما ، بجميع وجوه الإحسان ، القولي والفعلي ، لأنهما سبب وجود العبد ، ولهما من المحبة للولد ، والإحسان إليه ، والقرب ، ما يقتضي تأكد الحق ، ووجوب البر. (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) أي : إذا وصلا إلى هذا السن ، الذي تضعف فيه قواهما ، ويحتاجان من اللطف والإحسان ، ما هو معروف. (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) وهذا أدنى مراتب الأذى ، نبه به على ما سواه. والمعنى لا تؤذهما أدنى أذية. (وَلا تَنْهَرْهُما) أي : تزجرهما ، وتتكلم كلاما خشنا. (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) بلفظ يحبانه ، وتأدب ، وتلطف معهما ، بكلام لين حسن يلذ على قلوبهما ، وتطمئن به نفوسهما ، وذلك يختلف باختلاف الأحوال والعوائد ، والأزمان.
[٢٤] (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) أي : تواضع لهما ، ذلا لهما ، ورحمة ، واحتسابا للأجر ، لا لأجل الخوف منهما ، أو الرجاء لما لهما ، ونحو ذلك من المقاصد ، التي لا يؤجر عليها العبد. (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما) أي : ادع لهما بالرحمة أحياء ، وأمواتا. جزاء على تربيتهما إياك ، صغيرا. وفهم من هذا ، أنه كلما ازدادت التربية ، ازداد الحق. وكذلك من تولى تربية الإنسان في دينه ودنياه ، تربية صالحة غير الأبوين ، فإن له على من رباه حق التربية.
[٢٥] أي : ربكم تعالى مطلع على ما أكنته سرائركم ، من خير وشر ، وهو لا ينظر إلى أعمالكم وأبدانكم ، وإنما ينظر إلى قلوبكم وما فيها من الخير والشر. (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) بأن تكون إرادتكم ومقاصدكم دائرة على مرضاة الله ورغبتكم فيما يقربكم إليه ، وليس في قلوبكم إرادات مستقرة لغير الله. (فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ) أي : الرجاعين إليه في جميع الأوقات (غَفُوراً). فمن اطلع الله على قلبه ، وعلم أنه ليس فيه إلا الإنابة إليه ومحبته ، ومحبة ما يقرب إليه ، فإنه ، وإن جرى منه في بعض الأوقات ، ما هو مقتضى الطبائع البشرية ، فإن الله يعفو عنه ، ويغفر له الأمور العارضة ، غير المستقرة.
[٢٦] يقول تعالى : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) من البر والإكرام ، الواجب المسنون ، وذلك الحق ، يتفاوت بتفاوت الأحوال ، والأقارب ، والحاجة وعدمها ، والأزمنة. (وَالْمِسْكِينَ) آته حقه من الزكاة ومن غيرها ، لتزول مسكنته (وَابْنَ السَّبِيلِ) وهو : الغريب المنقطع به عن بلده. (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) يعطى الجميع من المال ، على وجه لا يضر المعطي ، ولا يكون زائدا على المقدار اللائق ، فإن ذلك تبذير ، وقد نهى الله عنه وأخبر :
[٢٧] (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) لأن الشيطان ، لا يدعو إلا إلى كل خصلة ذميمة ، فيدعو الإنسان إلى البخل والإمساك ، فإذا عصاه ، دعاه إلى الإسراف والتبذير. والله تعالى ، إنما يأمر بأعدل الأمور وأقسطها ، ويمدح عليه ، كما في قوله ، عن عباد الرحمن الأبرار (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (٦٧).
[٢٩] وقال هنا : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) كناية عن شدة الإمساك والبخل. (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ)