قدريا ، (فَفَسَقُوا فِيها) ، واشتد طغيانهم. (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) أي : كلمة العذاب التي لا مرد لها (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً). وهؤلاء أمم كثيرة أبادهم الله بالعذاب ، من بعد قوم نوح ، كعاد ، وثمود ، وقوم لوط ، وغيرهم ، ممن عاقبهم الله ، لما كثر بغيهم ، واشتد كفرهم ، أنزل الله بهم عقابه العظيم. (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) فلا يخافون منه ظلما ، وأنه يعاقبهم على ما عملوه.
[١٨] يخبر تعالى أن (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) أي : الدنيا المنقضية الزائلة ، فعمل لها ، وسعى ، ونسي المبتدأ أو المنتهى ، أن الله يعجل له من حطامها ومتاعها ، ما يشاؤه ويريده ، مما كتب الله له في اللوح المحفوظ ، ولكنه متاع غير نافع ولا دائم له. ثم يجعل له في الآخرة (جَهَنَّمَ يَصْلاها) أي : يباشر عذابها (مَذْمُوماً مَدْحُوراً) أي : في حالة الخزي والفضيحة والذم من الله ، ومن خلقه ، والبعد عن رحمة الله ، فيجمع له العذاب والفضيحة.
[١٩ ـ ٢٠] (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ) فرضيها وآثرها على الدنيا (وَسَعى لَها سَعْيَها) الذي دعت إليه الكتب السماوية ، والآثار النبوية ، فعمل بذلك على قدر إمكانه (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) بالله وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر. (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) أي : مقبولا منمّى ، مدخرا ، لهم أجرهم وثوابهم عند ربهم. ومع هذا ، فلا يفوتهم نصيبهم من الدنيا ، فكلا يمده الله منها ، لأنه عطاؤه وإحسانه. (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) أي : ممنوعا من أحد ، بل جميع الخلق راتعون بفضله وإحسانه.
[٢١] (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) في الدنيا ، بسعة الأرزاق وقلتها ، واليسر والعسر ، والعلم والجهل ، والعقل والسفه ، وغير ذلك من الأمور التي فضل الله العباد بعضهم على بعض بها. (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) فلا نسبة لنعيم الدنيا ولذاتها ، إلى الآخرة ، بوجه من الوجوه. فكم بين من هو في الغرف العاليات ، واللذات المتنوعات ، والسرور والخيرات والأفراح ، ممن هو يتقلب في الجحيم ، ويعذب بالعذاب الأليم وقد حل عليه سخط الرب الرحيم ، وكل من الدارين بين أهلها من التفاوت ما لا يمكن أحدا عدّه.
[٢٢] أي : لا تعتقد أن أحدا من المخلوقين يستحق شيئا من العبادة ، ولا تشرك بالله أحدا منهم ، فإن ذلك داع للذم والخذلان. فالله ، وملائكته ، ورسله ، قد نهوا عن الشرك ، وذموا عن عمله أشد الذم ، ورتبوا عليه من الأسماء المذمومة ، والأوصاف المقبوحة ، ما كان به متعاطيه ، أشنع الخلق وصفا ، وأقبحهم نعتا. وله من الخذلان في أمر دينه ودنياه ، بحسب ما تركه من التعلق بربه. فمن تعلق بغيره ، فهو مخذول ، قد وكل إلى من تعلق به ، ولا أحد من الخلق ينفع أحدا ، إلا بإذن الله. كما أن من جعل مع الله إلها آخر ، له الذم والخذلان. فمن وحده ، وأخلص دينه لله ، وتعلق به دون غيره ، فإنه محمود معان في جميع أحواله.
[٢٣] لما نهى تعالى عن الشرك به ، أمر بالتوحيد ، فقال : (وَقَضى رَبُّكَ) قضاء دينيا ، وأمرا شرعيا. (أَلَّا تَعْبُدُوا) أحدا من أهل الأرض والسموات والأحياء والأموات. (إِلَّا إِيَّاهُ) لأنه الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي له كل صفة كمال ، وله من كل صفة أعظمها ، على وجه لا يشبهه أحد من خلقه ، وهو المنعم بالنعم الظاهرة