أخلصه وأصوبه ، ومع ذلك سيجعل الله جميع هذه المذكورات ، فانية مضمحلة ، وزائلة منقضية ، وستعود الأرض ، صعيدا جرزا قد ذهبت لذاتها ، وانقطعت أنهارها ، واندرست آثارها ، وزال نعيمها ، وهذه حقيقة الدنيا ، قد جلاها الله لنا كأنها رأي عين ، وحذرنا من الاغترار بها ، ورغبنا في دار يدوم نعيمها ، ويسعد مقيمها ، كل ذلك رحمة بنا. فاغتر بزخرف الدنيا وزينتها ، من نظر إلى ظاهر الدنيا ، دون باطنها ، فصحبوا الدنيا ، صحبة البهائم ، وتمتعوا بها تمتّع السّوائم ، لا ينظرون في حق ربهم ، ولا يهتمون لمعرفته ، بل همهم تناول الشهوات ، من أيّ وجه حصلت ، وعلى أيّ حالة اتفقت ، فهؤلاء إذا حضر أحدهم الموت ، قلق لخراب ذاته ، وفوات لذاته ، لا لما قدمت يداه ، من التفريط والسيئات. وأما من نظر إلى باطن الدنيا ، وعلم المقصود منها ومنه ، فإنه يتناول منها ، ما يستعين به على ما خلق له ، وانتهز الفرصة في عمره الشريف ، فجعل الدنيا منزل عبور ، لا محل حبور ، وشقّة سفر ، لا منزل إقامة ، فبذل جهده في معرفة ربه ، وتنفيذ أوامره ، وإحسان العمل ، فهذا بأحسن المنازل عند الله ، وهو حقيق منه بكل كرامة ونعيم ، وسرور وتكريم ، فنظر إلى باطن الدنيا ، حين نظر المغتر إلى ظاهرها ، وعمل لآخرته ، حين علم البطال لدنياه ، فشتان ما بين الفريقين ، وما أبعد الفرق بين الطائفتين!!
[٩]وهذا الاستفهام بمعنى النفي ، والنهي. أي : لا تظن أن قصة أصحاب الكهف ، وما جرى لهم ، غريبة على آيات الله ، وبديعة في حكمته ، وأنه لا نظير لها ، ولا مجانس لها ، بل لله تعالى من الآيات العجيبة الغريبة ، ما هو كثير ، من جنس آياته في أصحاب الكهف ، أعظم منها ، فلم يزل الله يري عباده من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم ، ما يتبين به الحق من الباطل والهدى من الضلال ، وليس المراد بهذا النفي أن تكون قصة أصحاب الكهف من العجائب ، بل هي من آيات الله العجيبة. وإنما المراد ، أن جنسها كثير جدا ، فالوقوف معها وحدها ، في مقام العجب والاستغراب ، نقص في العلم والعقل ، بل وظيفة المؤمن ، التفكر بجميع آيات الله ، التي دعا الله العباد إلى التفكير فيها ، فإنها مفتاح الإيمان ، وطريق العلم والإيقان. وإضافتهم إلى الكهف ، الذي هو الغار في الجبل والرقيم ، أي : الكتاب الذي قد رقمت فيه أسماؤهم وقصتهم ، لملازمتهم له دهرا طويلا.
[١٠ ـ ١١] ثم ذكر قصتهم مجملة ، وفصلها بعد ذلك فقال : (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ) أي : الشباب ، (إِلَى الْكَهْفِ) يريدون بذلك ، التحصن والتحرز ، من فتنة قومهم لهم. (فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي : تثبتنا بها وتحفظنا من الشر وتوفقنا للخير (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) أي : يسر لنا كل سبب موصل إلى الرشد ، وأصلح لنا أمر ديننا ودنيانا ، فجمعوا بين السعي والفرار من الفتنة ، إلى محل يمكن الاستخفاء فيه ، وبين تضرعهم وسؤالهم لله تيسير أمورهم ، وعدم اتكالهم على أنفسهم ، وعلى الخلق. فلذلك استجاب الله دعاءهم ، وقيض لهم ، ما لم يكن في حسابهم قال : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ) أي : أنمناهم (سِنِينَ عَدَداً) وهي : ثلاثمائة سنة ، وتسع سنين ، وفي النوم المذكور حفظ لقلوبهم من الاضطراب والخوف ، وحفظ لهم من قومهم.
[١٢] (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) أي : من نومهم (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) أي : لنعلم أيهم أحصى لمقدار مدتهم ، كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) الآية ، وفي العلم بمقدار لبثهم ، ضبط للحساب ، ومعرفة لكمال قدرة الله تعالى ، وحكمته ، ورحمته. فلو استمروا على نومهم ، لم يحصل الاطلاع على شيء من ذلك ، من قصتهم.
[١٣] هذا شروع في تفصيل قصتهم ، وأن الله يقصها على نبيه بالحق والصدق ، الذي ما فيه شك ولا شبهة بوجه من الوجوه. (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) وهذا من جموع القلة ، يدل ذلك على أنهم دون العشرة ، (آمَنُوا) بالله وحده لا شريك له من دون قومهم ، فشكر الله لهم إيمانهم ، فزادهم هدى ، أي : بسبب أصل اهتدائهم إلى الإيمان ، زادهم الله من الهدى ، الذي هو العلم النافع ، والعمل الصالح ، كما قال تعالى : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا