الْجِبالَ) أي : يزيلها عن أماكنها ، يجعلها كثيبا ، ثم يجعلها كالعهن المنفوش ثم تضمحل وتتلاشى ، وتكون هباء منبثا ، وتبرز الأرض ، فتصير قاعا صفصفا ، لا عوج فيه ولا أمتا. ويحشر الله جميع الخلق ، على تلك الأرض ، فلا يغادر منهم أحدا. بل يجمع الأولين والآخرين ، من بطون الفلوات ، وفغور البحار ، ويجمعهم بعد ما تفرقوا ، ويعيدهم ، بعد ما تمزقوا ، خلقا جديدا ، فيعرضون عليه صفا ، ليستعرضهم ، وينظر في أعمالهم ، ويحكم فيهم ، بحكمه العدل ، الذي لا جور فيه ولا ظلم ، ويقول لهم : (لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي : بلا مال ، ولا أهل ، ولا عشيرة ، ما معهم إلا الأعمال ، التي عملوها ، والمكاسب في الخير والشر ، التي كسبوها. كما قال تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ). وقال هنا ، مخاطبا للمنكرين للبعث ، وقد شاهدوه عيانا : (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) أي : أنكرتم الجزاء على الأعمال ، ووعد الله ، ووعيده فيها ، قد رأيتموه وذقتموه ، فحينئذ تحضر كتب الأعمال التي كتبها الملائكة الأبرار ، فتطير لها القلوب ، وتعظم من وقعها ، الكروب ، وتكاد لها الصم الصلاب تذوب ، ويشفق منها المجرمون ، فإذا رأوها مسطرة عليهم أعمالهم ، محصى عليهم أقوالهم وأفعالهم ، قالوا : (يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) أي : لا يترك خطيئة ، صغيرة ولا كبيرة ، إلا وهي مكتوبة فيه ، محفوظة لم ينس منها عمل سر ولا علانية ، ولا ليل ولا نهار. (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) لا يقدرون على إنكاره (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) ، فحينئذ يجازون بها ، ويقررون بها ، ويخزون ، ويحق عليهم العذاب ، (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١٨٢) بل هم غير خارجين عن عدله وفضله.
[٥٠] يخبر الله تعالى ، عن عداوة إبليس لآدم وذريته ، وأن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم ، إكراما وتعظيما ، وامتثالا لأمر الله ، فامتثلوا ذلك (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) وقال : (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) وقال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) ، فتبين بهذا ، عداوته لله ولأبيكم ، فكيف تتخذونه وذريته أي : الشياطين (أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) ، أي : بئس ما اختاروا لأنفسهم من ولاية الشيطان ، الذي لا يأمرهم إلا بالفحشاء والمنكر عن ولاية الرحمن ، الذي كل السعادة والفلاح والسرور في ولايته. وفي هذه الآية ، الحث على اتخاذ الشيطان عدوا ، والإغراء بذلك ، وذكر السبب الموجب لذلك ، وأنه لا يفعل ذلك إلا ظالم ، وأي ظلم ، أعظم من ظلم من اتخذه عدوه الحقيقي ، وليا ، وترك الولي الحميد؟!! قال تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ). وقال تعالى : (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ).
[٥١] يقول تعالى : وما أشهدت الشياطين وهؤلاء المضلين ، (خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) ، أي : ما أحضرتهم ذلك ، ولا شاورتهم عليه ، فكيف يكونون خالقين لشيء من ذلك؟! بل المنفرد بالخلق والتدبير ، والحكمة