[٨٤ ـ ٨٦] (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) أي : ملكه الله تعالى ، ومكنه من النفوذ في أقطار الأرض ، وانقيادهم له. (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً) (٨٥) أي : أعطاه الله من الأسباب الموصلة له ، لما وصل إليه ، ما به يستعين على قهر البلدان ، وسهولة الوصول إلى أقاصي العمران. وعمل بتلك الأسباب ، التي أعطاه الله إياها ، أي : استعملها على وجهها ، فليس كل من عنده شيء من الأسباب يسلكه ، ولا كل أحد يكون قادرا على السبب ، فإذا اجتمعت القدرة على السبب الحقيقي ، والعمل به ، حصل المقصود ، وإن عدما ، أو أحدهما لم يحصل. وهذه الأسباب التي أعطاه الله إياها ، لم يخبرنا الله ولا رسوله بها ، ولم تتناقلها الأخبار على وجه يفيد العلم ، فلهذا ، لا يسعنا غير السكوت عنها ، وعدم الالتفات لما يذكره النقلة للإسرائيليات ونحوها ، ولكننا نعلم بالجملة ، أنها أسباب قوية كثيرة ، داخلية وخارجية ، بها صار له جند عظيم ، ذو عدد وعدد ونظام ، وبه تمكن من قهر الأعداء ، ومن تسهيل الوصول إلى مشارق الأرض ومغاربها ، وأنحائها ، فأعطاه الله ، ما بلغ به مغرب الشمس ، حتى رأى الشمس في مرأى العين ، كأنها تغرب في عين حمئة ، أي : سوداء ، وهذا هو المعتاد لمن كان بينه وبين أفق الشمس الغربي ماء ، رآها تغرب في نفس الماء وإن كانت في غاية الارتفاع ، ووجد عندها ، أي : عند مغربها قوما. (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) أي : إما أن تعذبهم ، بقتل ، أو ضرب ، أو أسر ونحوه ، وإما أن تحسن إليهم فخيّر بين الأمرين ، لأن الظاهر أنهم كفار ، أو فساق ، أو فيهم شيء من ذلك ، لأنهم لو كانوا مؤمنين غير فساق ، لم يرخّص له في تعذيبهم ، فكان عند ذي القرنين من السياسة الشرعية ، ما استحق به المدح والثناء ، لتوفيق الله له لذلك.
[٨٧] فقال : سأجعلهم قسمين : (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) بالكفر (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) أي : تحصل له العقوبتان ، عقوبة الدنيا ، وعقوبة الآخرة.
[٨٨ ـ ٨٩] (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) أي : فله الجنة والحالة الحسنة عند الله جزاء يوم القيامة. (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) أي : وسنحسن إليه ، ونلطف له بالقول ، ونيسر له المعاملة ، وهذا يدل على كونه من الملوك الصالحين الأولياء ، العادلين العالمين ، حيث وافق مرضاة الله في معاملة كل أحد ، بما يليق بحاله.
[٩٠ ـ ٩١] أي : لما وصل إلى مغرب الشمس كرّ راجعا ، قاصدا مطلعها ، متبعا للأسباب ، التي أعطاه الله ، فوصل إلى مطلع الشمس ف (وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) أي : وجدها تطلع على أناس ليس لهم ستر من الشمس ، إما لعدم استعدادهم في المساكن ، وذلك لزيادة همجيتهم وتوحشهم ، وعدم تمدنهم ، وإما لكون الشمس دائمة عندهم ، لا تغرب غروبا يذكر ، كما يوجد ذلك في شرقي أفريقيا الجنوبي ، فوصل إلى موضع انقطع عنه علم أهل الأرض ، فضلا عن وصولهم إليه بأبدانهم ، ومع هذا ، فكل هذا بتقدير الله له ، وعلمه به ، ولهذا قال : (كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا) بما عنده من الخير والأسباب العظيمة وعلمنا معه ، حيثما توجه وسار.
[٩٢ ـ ٩٣] (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) قال المفسرون : ذهب متوجها من المشرق ، قاصدا