للشمال ، فوصل إلى ما بين السدين ، وهما سدان ، كانا معروفين في ذلك الزمان ، سدان من سلاسل الجبال ، المتصلة يمنة ويسرة حتّى تتصل بالبحار ، بين يأجوج ومأجوج وبين الناس ، وجد من دون السدين قوما ، لا يكادون يفقهون قولا ، لعجمة ألسنتهم ، واستعجام أذهانهم وقلوبهم ، وقد أعطى الله ذا القرنين ، من الأسباب العلمية ، ما فقه به ألسنة أولئك القوم ، ووفقهم ، وراجعهم ، وراجعوه ، فاشتكوا إليه ضرر يأجوج ومأجوج ، وهما : أمتان عظيمتان من بني آدم.
[٩٤] فقالوا : (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالقتل وأخذ الأموال وغير ذلك. (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) أي : جعلا (عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) ، ودل ذلك على عدم اقتدارهم بأنفسهم ، على بنيان السد ، وعرفوا اقتدار ذي القرنين عليه ، فبذلوا له أجرة ، ليفعل ذلك ، وذكروا له السبب الداعي ، وهو : إفسادهم في الأرض. فلم يكن ذو القرنين ذا طمع ، ولا رغبة في الدنيا ، ولا تاركا لإصلاح أحوال الرعية. بل قصده الإصلاح ، فلذلك أجاب طلباتهم ، لما فيها من المصلحة ، ولم يأخذ منهم أجرة ، وشكر ربه على تمكينه واقتداره.
[٩٥] فقال لهم : (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) أي : مما تبذلون لي وتعطوني ، وإنما أطلب منكم أن تعينوني بقوة منكم بأيديكم (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) أي : مانعا من عبورهم عليكم.
[٩٦] (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) أي : قطع الحديد ، فأعطوه ذلك. (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) أي : الجبلين اللذين بني بينهما السد (قالَ انْفُخُوا) أي : أوقدوها إيقادا عظيما ، واستعملوا لها المنافيخ ، لتشتد ، فتذيب النحاس ، فلما ذاب النحاس ، الذي يريد أن يلصقه بين زبر الحديد (قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) أي : نحاسا مذابا ، فأفرغ عليه القطر ، فاستحكم السد استحكاما هائلا ، وامتنع به من وراءه من الناس ، من ضرر يأجوج ومأجوج.
[٩٧ ـ ٩٨] (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) (٩٧) أي : فما لهم استطاعة ، ولا قدرة على الصعود عليه ، لارتفاعه ، ولا على نقبه لإحكامه وقوته ، فلما فعل هذا الفعل الجميل والأثر الجليل ، أضاف النعمة إلى موليها و (قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) أي : من فضله وإحسانه عليّ. وهذه حال الخلفاء والصالحين ، إذا منّ الله عليهم بالنعم الجليلة ، ازداد شكرهم وإقرارهم ، واعترافهم بنعمة الله كما قال سليمان عليهالسلام ، لما حضر عنده عرش ملكة سبأ ، مع البعد العظيم قال : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) ، بخلاف أهل التجبر والتكبر ، والعلو في الأرض فإن النعم الكبار ، تزيدهم أشرا وبطرا. كما قال قارون ـ لما آتاه الله من الكنوز ، ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة قال : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي). وقوله : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي) أي : لخروج يأجوج ومأجوج (جَعَلَهُ) أي : ذلك السد المحكم المتقن (دَكَّاءَ) أي : دكه فانهدم ، واستوى هو والأرض (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا).
[٩٩] (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) يحتمل أن الضمير ، يعود إلى يأجوج ومأجوج. وأنهم إذا خرجوا على الناس ـ من كثرتهم واستيعابهم للأرض كلها ـ يموج بعضهم ببعض ، كما قال تعالى : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ