لأوليائه ، وبأي سبب حصلت لهم ، مما يدعو إلى محبة الله تعالى ، والإكثار من ذكره ومعرفته ، والسبب الموصل إليه. وذلك أن الله تعالى ، اجتبى واصطفى ، زكريا عليهالسلام لرسالته ، وخصه بوحيه ، فقام بذلك قيام أمثاله من المرسلين ، ودعا العباد إلى ربه ، وعلمهم ما علمه الله ، ونصح لهم في حياته وبعد مماته ، كإخوانه من المرسلين ، ومن اتبعهم ، فلما رأى من نفسه الضعف ، وخاف أن يموت ، ولم يكن أحد ينوب منابه في دعوة الخلق إلى ربهم والنصح لهم ، شكا إلى ربه ضعفه الظاهر والباطن ، وناداه نداء خفيا ، ليكون أكمل ، وأفضل ، وأتم إخلاصا.
[٤] فقال : (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) أي : وهى وضعف ، وإذا ضعف العظم ، الذي هو عماد البدن ، ضعف غيره. (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) لأن الشيب دليل الضعف والكبر ، ورسول الموت ، ورائده ونذيره. فتوسل إلى الله تعالى بضعفه وعجزه ، وهذا من أحب الوسائل إلى الله ، لأنه يدل التّبرّي من الحول والقوة ، وتعلق القلب بحول الله وقوته. (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أي : لم تكن يا رب تردني خائبا ولا محروما من الإجابة ، بل لم تزل بي حفيا ، ولدعائي مجيبا ، ولم تزل ألطافك تتوالى عليّ ، وإحسانك واصلا إليّ ، وهذا توسل إلى الله ، بإنعامه عليه ، وإجابة دعواته السابقة ، فسأل الذي أحسن سابقا ، أن يتمم إحسانه لاحقا.
[٥] (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) أي : وإني خفت من يتولى على بني إسرائيل من بعد موتي ، أي : لا يقوموا بدينك حق القيام ، ولا يدعوا عبادك إليك. وظاهر هذا ، أنه لم ير فيهم أحدا ، فيه لياقة للإمامة في الدين ، وهذا فيه شفقة زكريا عليهالسلام ، ونصحه. وأن طلبه للولد ، ليس كطلب غيره ، قصده مجرد المصلحة الدنيوية ، وإنما قصده ، مصلحة الدين ، والخوف من ضياعه ، ورأى غيره ، غير صالح لذلك. وكان بيته من البيوت المشهورة في الدين ، ومعدن الرسالة ، ومظنة للخير ، فدعا الله أن يرزقه ولدا ، يقوم بالدين من بعده ، واشتكى أن امرأته عاقرا ، أي : ليست تلد أصلا ، وأنه قد بلغ من الكبر عتيا ، أي : عمرا يندر معه وجود الشهوة والولد. (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) وهذه الولاية ، ولاية الدين ، وميراث النبوة والعلم والعمل.
[٦] ولهذا قال : (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (٦) أي : عبدا صالحا ترضاه ، وتحببه إلى عبادك ، والحاصل أنه سأل الله ولدا ، ذكرا ، صالحا ، يبقى بعد موته ، ويكون وليا من بعده ، ويكون نبيا مرضيا عند الله وعند خلقه ، وهذا أفضل ما يكون من الأولاد ، ومن رحمة الله بعبده ، أن يرزقه ولدا صالحا ، جامعا لمكارم الأخلاق ، ومحامد الشيم.
[٧] فرحمه ربه ، واستجاب دعوته فقال : (يا زَكَرِيَّا) إلى (وَعَشِيًّا) ، أي : بشره الله تعالى على يد الملائكة ب «يحيى» وسماه الله له «يحيى» ، وكان اسما موافقا لمسماه : يحيا حياة حسية ، فتتم به المنة ، ويحيا حياة معنوية ، وهي حياة القلب والروح ، بالوحي والعلم والدين. (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) أي : لم يسم هذا الاسم قبله أحد ، ويحتمل أن المعنى : لم نجعل له من قبل مثيلا ومساميا ، فيكون ، بشارة بكماله ، واتصافه بالصفات الحميدة ، وأنه فاق من قبله ، ولكن على هذا الاحتمال هذا العموم ، لا بد أن يكون مخصوصا بإبراهيم ، وموسى ، ونوح عليهم الصلاة والسّلام ، ونحوهم ، ممن هو أفضل من يحيى قطعا ، فحينئذ لما جاءته البشارة بهذا المولود ، الذي طلبه ، استغرب وتعجب وقال :
[٨] (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) والحال أن المانع من وجود الولد ، موجود بي وبزوجتي؟ وكأنه وقت دعائه ، لم يستحضر هذا المانع ، لقوة الوارد في قلبه ، وشدة الحرص العظيم على الولد.
[٩] وفي هذه الحال ، حين قبلت دعوته ، تعجب من ذلك ، فأجابه الله بقوله : (كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي : الأمر مستغرب في العادة ، وفي سنة الله في الخليقة ، ولكن قدرة الله تعالى صالحة لإيجاده بدون أسبابها فذلك هين عليه ، ليس بأصعب من إيجاده قبل ، ولم يكن شيئا.