الله وسلامه عليه ، وعلى والده ، وعلى سائر المرسلين ، وجعلنا من أتباعهم ، إنه جواد كريم.
[١٦] لما ذكر قصة زكريا ويحيى ، وكانت من الآيات العجيبة ، انتقل ، منها إلى ما هو أعجب منها ، تدريجا من الأدنى إلى الأعلى فقال : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) الكريم (مَرْيَمَ) عليهاالسلام ، وهذا من أعظم فضائلها ، أن تذكر في الكتاب العظيم ، الذي يتلوه المسلمون ، في مشارق الأرض ومغاربها ، تذكر فيه بأحسن الذكر ، وأفضل الثناء ، جزاء لعملها الفاضل ، وسعيها الكامل ، أي : واذكر في الكتاب مريم ، في حالها الحسنة ، حين (انْتَبَذَتْ) أي : تباعدت عن أهلها (مَكاناً شَرْقِيًّا) أي : مما يلي الشرق عنهم.
[١٧] (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) أي : سترا ومانعا ، وهذا التباعد منها ، واتخاذ الحجاب ، لتعتزل ، وتنفرد بعبادة ربها ، وتقنت له في حالة الإخلاص والخضوع ، والذل لله تعالى ، وذلك امتثال منها لقوله تعالى : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٤٣). (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) وهو : جبريل عليهالسلام (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) أي : كاملا من الرجال ، في صورة جميلة ، وهيئة حسنة ، لا عيب فيه ولا نقص ، لكونها لا تحتمل رؤيته على ما هو عليه ، فلما رأته في هذه الحال ، وهي معتزلة عن أهلها ، منفردة عن الناس ، قد اتخذت الحجاب عن أعز الناس عليها ، وهم أهلها ، خافت أن يكون رجلا قد تعرض لها بسوء ، وطمع فيها ، فاعتصمت بربها ، واستعاذت منه فقالت له :
[١٨] (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ) أي : ألتجئ به وأعتصم برحمته ، أن تنالني بسوء (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) أي : إن كنت تخاف الله ، وتعمل بتقواه ، فاترك التعرض لي ، فجمعت بين الاعتصام بربها ، وبين تخويفه وترهيبه ، وأمره بلزوم التقوى ، وهي في تلك الحالة الخالية ، والشباب ، والبعد عن الناس ، وهو في ذلك الجمال الباهر ، والبشرية الكاملة السوية ، ولم ينطق لها بسوء ، أو يتعرض لها ، وإنما ذلك خوف منها ، وهذا أبلغ ما يكون من العفة ، والبعد عن الشر وأسبابه. وهذه العفة ـ خصوصا مع اجتماع الدواعي ، وعدم المانع ـ من أفضل الأعمال. ولذلك أثنى الله عليها فقال : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) ، (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) (٩١).
[١٩ ـ ٢٠] فأعاضها الله بعفتها ، ولدا من آيات الله ، ورسولا من رسله ، فلما رأى جبريل منها الروع والخيفة ، قال : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) أي : إنما وظيفتي وشغلي ، تنيفذ رسالة ربي فيك (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) ، وهذه بشارة عظيمة بالولد وزكائه ، فإن الزكاء ، يستلزم تطهيره من الخصال الذميمة ، واتصافه بالخصال الحميدة ، فتعجبت من وجود الولد من غير أب فقالت : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) والولد لا يوجد إلا بذلك؟!!
[٢١] (قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) تدل على قدرة الله تعالى ، وعلى أن الأسباب جميعها ، لا تستقل بالتأثير ، وإنما تأثيرها بتقدير الله. فيري عباده خرق العوائد في بعض الأسباب العادية ، لئلا يقفوا