يحشرون زرقا ألوانهم من الخوف والقلق ، والعطش ، يتناجون بينهم ، ويتخافتون في قصر مدة الدنيا ، وسرعة الآخرة ، فيقول بعضهم : ما لبثتم إلّا عشرة أيام ، ويقول بعضهم غير ذلك ، والله يعلم تخافتهم ، ويسمع ما يقولون (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) ، أي : أعدلهم وأقربهم إلى التقدير (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً). المقصود من هذا ، الندم العظيم ، كيف ضيعوا الأوقات القصيرة ، وقطعوها ساهين لاهين ، معرضين عما ينفعهم ، مقبلين على ما يضرهم ، فها قد حضر الجزاء ، وحق الوعيد ، فلم يبق إلّا الندم والدعاء ، بالويل والثبور. كما قال تعالى : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١١٤).
[١٠٥ ـ ١٠٧] يخبر تعالى عن أهوال القيامة ، وما فيها من الزلازل والقلاقل ، فقال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) أي : ماذا يصنع بها يوم القيامة ، وهل تبقى بحالها أم لا؟ (فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) أي : يزيلها ويقلعها من أماكنها فتكون كالعهن ، وكالرمل ، ثمّ يدكها فيجعلها هباء منبثا ، فتضمحل وتتلاشى ، ويسويها بالأرض ، ويجعل الأرض قاعا صفصفا ، مستويا لا يرى فيها الناظر (عِوَجاً) ، هذا من تمام استوائها (وَلا أَمْتاً) أي : أودية وأماكن منخفضة ، أو مرتفعة ، فتبرز الأرض ، وتتسع للخلائق ويمدها الله مدّ الأديم ، فيكونون في موقف واحد ، يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر.
[١٠٨] ولهذا قال : (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) وذلك حين يبعثون من قبورهم ، ويقومون منها ، يدعوهم الداعي إلى الحضور والاجتماع للموقف ، فيتبعون مهطعين إليه ، لا يلتفتون عنه ، ولا يعرجون يمنة ولا يسرة. وقوله : (لا عِوَجَ لَهُ) أي : لا عوج لدعوة الداعي بل تكون دعوته حقا وصدقا ، لجميع الخلق ، يسمعهم جميعهم ، ويصيح لهم أجمعين ، فيحضرون لموقف القيامة ، خاشعة أصواتهم للرحمن. (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) أي : إلّا وطء الأقدام ، أو المخافتة سرا بتحريك الشفتين فقط ، يملكهم الخشوع والسكوت ، والإنصات ، انتظارا لحكم الرحمن فيهم ، وتعنو وجوههم أي : تذل وتخضع ، فترى في ذلك الموقف العظيم ، الأغنياء والفقراء ، والرجال والنساء ، والأحرار والأرقاء ، والملوك والسوقة ، ساكتين منصتين ، خاشعة أبصارهم ، خاضعة رقابهم ، جاثين على ركبهم ، عانية وجوههم ، لا يدرون ماذا ينفصل كل منهم به ، ولا ماذا يفعل به ، قد اشتغل كلّ بنفسه وشأنه ، عن أبيه وأخيه ، وصديقه وحبيبه (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (٣٧) ، يحكم فيه الحاكم العدل الديان ، ويجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بالحرمان. والأمل بالرب الكريم ، الرحمن الرحيم ، أن يرى الخلائق منه ، من الفضل والإحسان ، والعفو والصفح والغفران ، ما لا تعبر عنه الألسنة ، ولا تتصوره الأفكار. ويتطلع لرحمته إذ ذاك ، جميع الخلق لما يشاهدونه فيختص المؤمنون به وبرسله ، بالرحمة ، فإن قيل : من أين لكم هذا الأمل؟ وإن شئت قلت : من أين لكم هذا العلم بما ذكر؟ قلنا : لما نعلمه من غلبة رحمته لغضبه ، ومن سعة جوده ، الذي عم جميع البرايا ، ومما نشاهده في أنفسنا وفي غيرنا ، من النعم المتواترة في هذه الدار ، وخصوصا في فضل القيامة ، فإن قوله : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) ، (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) مع قوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) مع قوله صلىاللهعليهوسلم : «إن لله مائة رحمة أنزل لعباده رحمة ، بها يتراحمون ويتعاطفون ، حتى إن البهيمة ترفع حافرها عن ولدها ، خشية أن تطأه ، من الرحمة المودعة في قلبها ، فإذا كان يوم القيامة ضم هذه الرحمة إلى تسع وتسعين رحمة ، فرحم بها العباد». مع قوله صلىاللهعليهوسلم : «الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها» ، فقل ما شئت عن رحمته ، فإنها فوق ما تقول ، وتصور فوق ما شئت ، فإنها فوق ذلك ، فسبحان من رحم في عدله وعقوبته ، كما رحم في فضله وإحسانه ومثوبته. وتعالى من وسعت رحمته كل شيء ، وعم كرمه كل حي وجلّ من غني عن عباده ، رحيم بهم ، وهم مفتقرون إليه على الدوام ، في جميع أحوالهم ، فلا غنى لهم عنه ، طرفة عين.
[١٠٩ ـ ١١٢] وقوله : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (١٠٩) أي : لا يشفع أحد عنده