الموصلة إليه وإلى جنته ، ويحذرونهم من هذا العدو المبين ، وأنهم أي وقت جاءهم ذلك الهدى ، الذي هو : الكتب والرسل ، فإن من اتبعه ، اتبع ما أمر به ، واجتنب ما نهى عنه ، فإنه لا يضل في الدنيا ، ولا في الآخرة ، ولا يشقى فيهما ، بل قد هدي إلى صراط مستقيم ، في الدنيا والآخرة ، وله السعادة والأمن في الآخرة. وقد نفى عنه الخوف والحزن في آية أخرى بقوله : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). واتباع الهدى ، بتصديق الخبر ، وعدم معارضته بالشبه ، وامتثال الأمر بأن لا يعارضه بشهوة.
[١٢٤] (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) أي : كتابي الذي يتذكر به جميع المطالب العالية ، وأن يتركه على وجه الإعراض عنه ، أو ما هو أعظم من ذلك ، بأن يكون على وجه الإنكار له ، والكفر به (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) أي :
فإن جزاءه ، أن نجعل معيشته ضيقة مشقة ، ولا يكون ذلك إلا عذابا. وفسرت المعيشة الضنك ، بعذاب القبر ، وأنه يضيق عليه قبره ، ويحصر فيه ، ويعذب ، جزاء لإعراضه عن ذكر ربه ، وهذه إحدى الآيات الدالة على عذاب القبر. والثانية قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) الآية. والثالثة قوله : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ). والرابعة قوله عن آل فرعون (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) الآية. والذي أوجب لمن فسرها بعذاب القبر فقط من السلف ، وقصرها على ذلك ـ والله أعلم ـ آخر الآية ، وأن الله ذكر في آخرها عذاب يوم القيامة. وبعض المفسرين ، يرى أن المعيشة الضنك ، عامة في دار الدنيا ، بما يصيب المعرض عن ذكر ربه ، من الهموم ، والغموم ، والآلام ، التي هي عذاب معجل ، وفي دار البرزخ ، وفي الدار الآخرة ، لإطلاق المعيشة الضنك ، وعدم تقييدها. (وَنَحْشُرُهُ) أي : هذا المعرض عن ذكر ربه (يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) البصر على الصحيح ، كما قال تعالى : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا).
[١٢٥] قال على وجه الذل ، والمراجعة ، والتألم ، والضجر من هذه الحالة (رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ) في دار الدنيا (بَصِيراً) فما الذي صيرني إلى هذه الحالة البشعة.
[١٢٦] (قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها) بإعراضك عنها (وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) أي : تترك في العذاب. فأجيب ، بأن هذا هو عين عملك ، والجزاء ، من جنس العمل ، فكما عميت عن ذكر ربك ، وغشيت عنه ، ونسيته ، ونسيت حظك منه ، أعمى الله بصرك في الآخرة ، فحشرت إلى النار أعمى ، أصم ، أبكم ، وأعرض عنك ، ونسيك في العذاب.
[١٢٧] (وَكَذلِكَ) أي : هذا الجزاء (نَجْزِي) ه (مَنْ أَسْرَفَ) بأن تعدى الحدود ، وارتكب المحارم وجاوز ما أذن له (وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ) الدالة على جميع مطالب الإيمان دلالة واضحة صريحة ، فالله لم يظلمه ولم يضع العقوبة في غير محلها وإنّما السبب إسرافه وعدم إيمانه. (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ) من عذاب الدنيا أضعافا مضاعفة (وَأَبْقى) ، لكونه لا ينقطع ، بخلاف عذاب الدنيا فإنه منقطع ، فالواجب ، الخوف والحذر من عذاب الآخرة.
[١٢٨] أي : أفلم يهد لهؤلاء المكذبين المعرضين ، ويدلهم على سلوك طريق الرشاد ، وتجنب طريق الغي والفساد ، ما أحل الله بالمكذبين قبلهم ، من القرون الخالية ، والأمم المتتابعة ، الّذين يعرفون قصصهم ، ويتناقلون أسمارهم ، وينظرون بأعينهم ، مساكنهم من بعدهم ، كقوم هود ، وصالح ، ولوط وغيرهم ، وأنهم لما كذبوا رسلنا ، وأعرضوا عن كتبنا ، أصبناهم بالعذاب الأليم؟ فما الذي يؤمن هؤلاء ، أن يحل بهم ، ما حل بأولئك؟ (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) (٤٤) ، لا شيء من هذا كله فليس هؤلاء الكفار ، خيرا من أولئك ، حتى يدفع عنهم العذاب بخيرهم ، بل هم شر منهم ، لأنهم كفروا بأشرف الرسل ، وخير الكتب ، وليس لهم براءة مزبورة ، وعهد عند الله ، وليسوا كما يقولون ، أن جمعهم ينفعهم ، ويدفع عنهم ، بل هم أذل وأحقر من ذلك. فإهلاك القرون الماضية بذنوبهم ، من أسباب الهداية ، لكونها من الآيات الدالة على صحة رسالة الرسل ،