فما الذي أقامهم ، وأقعدهم؟ وأقض مضاجعهم ، وبلبل ألسنتهم إلا الحق الذي لا يقوم له شيء؟ وإنّما يقولون هذه الأقوال فيه ، حيث لم يؤمنوا به ، تنفيرا عنه لمن لم يعرفه. وهو أكبر الآيات المستمرة ، الدالة على صحة ما جاء به الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وصدقه ، وهو كاف شاف. فمن طلب دليلا غيره ، أو اقترح آية من الآيات سواه ، فهو جاهل ظالم مشبه لهؤلاء المعاندين الّذين كذبوه ، وطلبوا من الآيات الاقتراحية ، ما هو أضر شيء عليهم ، وليس لهم فيها مصلحة لأنهم إن كان قصدهم معرفة الحق إذا تبين دليله ، فقد تبين دليله بدونها ، وإن كان قصدهم التعجيز وإقامة العذر لأنفسهم ، إن لم يأت بما طلبوا فإنهم بهذه الحالة ـ على فرض إتيان ما طلبوا من الآيات ـ لا يؤمنون قطعا ، فلو جاءتهم كل آية ، لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم. ولهذا قال الله عنهم : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) أي : كناقة صالح ، وعصا موسى ، ونحو ذلك.
[٦] قال الله : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) أي : بهذه الآيات المقترحة ، وإنّما سنته تقتضي أن من طلبها ، ثمّ حصلت له لم يأمن أن يعاجله بالعقوبة. فالأولون ما آمنوا بها أفيؤمن هؤلاء بها؟ ما الذي فضلهم على أولئك وما الخير الذي فيهم ، يقتضي الإيمان عند وجودها؟ وهذا الاستفهام ، بمعنى النفي ، أي : لا يكون ذلك منهم أبدا.
[٧ ـ ٩] هذا جواب لشبه المكذبين للرسول القائلين : هلّا كان ملكا ، لا يحتاج إلى طعام وشراب ، وتصرّف في الأسواق؟ وهلّا كان خالدا؟ فإذا لم يكن كذلك ، دل على أنه ليس برسول. وهذه الشبه ما زالت في قلوب المكذبين للرسل ، تشابهوا في الكفر ، فتشابهت أقوالهم ، فأجاب تعالى عن هذه الشبه لهؤلاء المكذبين للرسول ، المقرين بإثبات الرسل قبله ، ولو لم يكن إلا إبراهيم عليهالسلام ، الذي قد أقر بنبوته جميع الطوائف. والمشركون ، يزعمون أنهم على دينه وملته ـ بأن الرسل قبل محمد صلىاللهعليهوسلم ، كلهم من البشر ، الّذين يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، وتطرأ عليهم العوارض البشرية ، من الموت وغيره ، وأن الله أرسلهم إلى قومهم وأممهم ، فصدقهم من صدقهم ، وكذبهم من كذبهم ، وأن الله صدقهم ما وعدهم به من النجاة ، والسعادة لهم ، ولأتباعهم ، وأهلك المسرفين المكذبين لهم. فما بال محمد صلىاللهعليهوسلم ، تقام الشبه الباطلة على إنكار رسالته وهي موجودة في إخوانه المرسلين ، الّذين يقرّ بهم المكذبون لمحمد؟ فهذا إلزام لهم ، في غاية الوضوح ، وأنهم إن أقروا برسول من البشر ، ولن يقروا برسول من غير البشر ، فإن شبههم باطلة ، قد أبطلوها بإقرارهم بفسادها ، وتناقضهم بها ، فلو قدر انتقالهم هذا إلى إنكار نبوة البشر رأسا ، وأنه لا يكون نبي إن لم يكن ملكا مخلّدا ، لا يأكل الطعام ، فقد أجاب الله عن هذه الشبهة بقوله : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ). وأن البشر لا طاقة لهم بتلقي الوحي من الملائكة (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) (٩٥) ، فإن حصل معكم شك وعدم علم بحالة الرسل المتقدمين (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) من الكتب السالفة ، كأهل التوراة والإنجيل ، يخبروكم بما عندهم من العلم ، وأنهم كلهم بشر من جنس المرسل إليهم. وهذه الآية وإن