إله واحد ، كما أنه لم يوجد ، إلا برب واحد. ولهذا قال : (لَوْ كانَ فِيهِما) أي : في السموات والأرض (آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) في ذاتهما ، وفسد من فيهما ، من المخلوقات. وبيان ذلك : أن العالم العلوي والسفلي ، على ما يرى ، في أكمل ما يكون من الصلاح والانتظام ، الذي ما فيه خلل ولا عيب ، ولا ممانعة ، ولا معارضة ، فدل ذلك على أن مدبره واحد ، وربه واحد ، وإلهه واحد ، فلو كان له مدبران وربان أو أكثر من ذلك ، لاختل نظامه ، وتقوضت أركانه ، فإنهما يتمانعان ويتعارضان ، وإذا أراد أحدهما تدبير شيء ، وأراد الآخر عدمه ، فإنه محال وجود مرادهما معا. ووجود مراد أحدهما دون الآخر ، يدل على عجز الآخر ، وعدم اقتداره واتفاقهما على مراد واحد في جميع الأمور ، غير ممكن. فإذا ، يتعين أن القاهر الذي يوجد مراده وحده ، من غير ممانع ولا مدافع ، هو الله الواحد القهار ، ولهذا ذكر الله دليل التمانع في قوله : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٩١). ومنه ـ على أحد التأويلين ـ قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) (٤٣). ولهذا قال هنا : (فَسُبْحانَ اللهِ) أي : تنزه وتقدس عن كل نقص لكماله وحده. (رَبِّ الْعَرْشِ) الذي هو سقف المخلوقات وأوسعها ، وأعظمها ، فربوبية ما دونه من باب أولى. (عَمَّا يَصِفُونَ) أي : الجاحدون الكافرون ، من اتخاذ الولد والصاحبة ، وأن يكون له شريك بوجه من الوجوه. (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) لعظمته وعزته ، وكمال قدرته ، لا يقدر أحد أن يمانعه أو يعارضه ، لا بقول ، ولا بفعل. ولكمال حكمته ووضعه الأشياء مواضعها وإتقانها ، أحسن كل شيء يقدره العقل ، فلا يتوجه إليه سؤال ، لأن خلقه ليس فيه خلل ولا إخلال. (وَهُمْ) أي : المخلوقون كلهم (يُسْئَلُونَ) عن أفعالهم وأقوالهم ، لعجزهم وفقرهم ، ولكونهم عبيدا ، قد استحقت أفعالهم وحركاتهم فليس لهم من التصرف والتدبير في أنفسهم ، ولا في غيرهم ، مثقال ذرة.
[٢٤] ثمّ رجع إلى تهجين حال المشركين ، وأنهم اتخذوا من دونه آلهة فقال لهم موبخا ومقرعا (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي : حجتكم ودليلكم على صحة ما ذهبتم إليه ، ولن يجدوا لذلك سبيلا بل قد قامت الأدلة القطعية على بطلانه ، ولهذا قال : (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) أي : قد اتفقت الكتب والشرائع على صحة ما قلت لكم ، من إبطال الشرك ، فهذا كتاب الله الذي فيه ذكر كل شيء ، بأدلته العقلية والنقلية ، وهذه الكتب السابقة كلها ، براهين وأدلة لما قلت. ولما علم أنهم قامت عليهم الحجة والبرهان على بطلان ما ذهبوا ليه ، علم أنه لا برهان لهم ، لأن البرهان القاطع ، يجزم أنه لا معارض له ، وإلا لم يكن قطعيا ، وإن وجد معارضات ، فإنه شبه لا تغني من الحق شيئا. وقوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ) أي : وإنّما أقاموا على ما هم عليه ، تقليدا لأسلافهم يجادلون بغير علم ولا هدى ، وليس عدم علمهم بالحق لخفائه وغموضه ، وإنّما ذلك ، لإعراضهم عنه ، وإلا فلو التفتوا إليه أدنى التفات ، لتبين لهم الحق من الباطل تبينا واضحا جليا ، ولهذا قال : (فَهُمْ مُعْرِضُونَ).
[٢٥] ولما حول تعالى على ذكر المتقدمين ، وأمر بالرجوع إليهم في بيان هذه المسألة ، بيّنها أتم تبيين في قوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (٢٥). فكل الرسل ، الّذين من قبلك مع كتبهم ، زبدة رسالتهم وأصلها ، الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له ، وبيان أنه الإله الحق المعبود ، وأن عبادة ما سواه ، باطلة.
[٢٦] يخبر تعالى عن سفاهة المشركين المكذبين للرسول ، وأنهم زعموا ـ قبحهم الله ـ أن الله اتخذ ولدا فقالوا : الملائكة بنات الله ، تعالى الله عن قولهم. وأخبر عن وصف الملائكة ، بأنهم عبيد مربوبون مدبرون ، ليس لهم من الأمر شيء ، وإنّما هم مكرمون عند الله ، قد ألزمهم الله ، وصيرهم من عبيد كرامته ورحمته ، وذلك لما خصهم به من الفضائل والتطهير عن الرذائل ، وأنهم في غاية الأدب مع الله ، والامتثال لأوامره.