[٢٧] (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) أي : لا يقولون قولا مما يتعلق بتدبير المملكة ، حتى يقول الله ، لكمال أدبهم ، وعلمهم بكمال حكمته وعلمه. (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) أي : مهما أمرهم ، امتثلوا لأمره ، ومهما دبرهم عليه ، فعلوه. فلا يعصونه طرفة عين ، ولا يكون لهم عمل بأهواء أنفسهم من دون أمر الله ، ومع هذا ، فالله قد أحاط بهم علمه.
[٢٨] (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي : أمورهم الماضية والمستقبلة ، فلا خروج لهم عن علمه ، كما لا خروج لهم عن أمره وتدبيره. ومن جزئيات وصفهم بأنهم لا يسبقونه بالقول ، وأنهم لا يشفعون لأحد بدون إذنه ، ورضاه ، فإذا أذن لهم ، وارتضى من يشفعون فيه ، شفعوا فيه ، ولكنه تعالى لا يرضى من القول والعمل ، إلا ما كان خالصا لوجهه ، متبعا فيه الرسول. وهذه الآية من أدلة إثبات الشفاعة ، وأن الملائكة يشفعون. (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) أي : خائفون وجلون ، قد خضعوا لجلاله ، وعنت وجوههم لعزه وجماله.
[٢٩] فلما بين أنه لا حق لهم في الألوهية ، ولا يستحقون شيئا من العبودية بما وصفهم به من الصفات المقتضية لذلك ـ ذكر أيضا أنه لا حظ لهم ، من الألوهية ، ولا بمجرد الدعوى ، وأن من قال منهم : (إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) على سبيل الفرض والتنزل (فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ). وأي : ظلم أعظم من ادعاء المخلوق الناقص ، الفقير إلى الله من جميع الوجوه ، مشاركته الله في خصائص الإلهية والربوبية؟!!
[٣٠] أي : أو لم ينظر هؤلاء الّذين كفروا بربهم ، وجحدوا الإخلاص له في العبودية ، ما يدلهم دلالة مشاهدة ، على أنه الرب المحمود الكريم المعبود ، فيشاهدون السماء والأرض ، فيجدونهما رتقا : هذه ليس فيها سحاب ولا مطر. وهذه هامدة ميتة ، لا نبات فيها ، ففتقناهما : السماء بالمطر ، والأرض بالنبات ، أليس الذي أوجد في السماء السحاب ، بعد أن كان الجو صافيا لا قزعة فيه ، وأودع فيه الماء الغزير ، ثمّ ساقه إلى بلد ميت ؛ قد اغبرّت أرجاؤه ، وقحط عنه ماؤه ، فأمطره فيها ، فاهتزت ، وتحركت ، وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج ، مختلف الأنواع ، متعدد المنافع ، أليس ذلك دليلا على أنه الحق ، وما سواه باطل ، وأنه محيي الموتى ، وأنه الرحمن الرحيم؟ ولهذا قال : (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) أي : إيمانا صحيحا ، ما فيه شك ولا شرك.
[٣١] ثمّ عدد تعالى الأدلة الأفقية فقال : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ) إلى (فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).
أي : ومن الأدلة على قدرته وكماله ووحدانيته ، ورحمته ، أنه لما كانت الأرض لا تستقر إلا بالجبال ، أرساها بها وأوتدها ، لئلا تميد بالعباد ، أي : لئلا تضطرب ، فلا يتمكن العباد من السكون فيها ، ولا حرثها ، ولا الاستقرار بها. فأرساها بالجبال ، فحصل بسبب ذلك ، من المصالح والمنافع ، ما حصل ، ولما كانت الجبال المتصل بعضها ببعض ، قد اتصلت اتصالا كثيرا جدا ، فلو بقيت بحالها ، جبالا شامخات ، وقللا باذخات ، لتعطل الاتصال بين كثير من البلدان. فمن حكمة الله ورحمته ، أن جعل بين تلك الجبال فجاجا سبلا. أي : طرقا سهلة لا حزنة ، لعلهم يهتدون