جهتنا ، وإذا لم يعانوا من الله ، فهم مخذولون في أمورهم ، لا يستطيعون جلب منفعة ، ولا دفع مضرة.
[٤٤] والذي أوجب لهم استمرارهم على كفرهم ، وشركهم قوله : (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أي : أمددناهم بالأموال والبنين ، وأطلنا أعمارهم ، فاشتغلوا بالتمتع بها ، ولهوا بها ، عما له خلقوا ، وطال عليهم الأمد ، فقست قلوبهم ، وعظم طغيانهم ، وتغلظ كفرانهم ، فلو لفتوا أنظارهم إلى من عن يمينهم ، وعن يسارهم من الأرض ، لم يجدوا إلا هالكا ، ولم يسمعوا إلا صوت ناعية ، ولم يحسوا إلا بقرون متتابعة على الهلاك ، وقد نصب الموت في كل طريق لاقتناص النفوس ، الأشراك. ولهذا قال : (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) أي : بموت أهلها وفنائهم ، شيئا فشيئا ، حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. فلو رأوا هذه الحالة ، لم يغتروا ، ويستمروا على ما هم عليه. (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) الّذين بوسعهم ، الخروج عن قدر الله؟ وبطاقتهم الامتناع عن الموت؟ فهل هذا وصفهم حتّى يغتروا بطول البقاء؟ أم إذا جاءهم رسول ربهم لقبض أرواحهم ، أذعنوا ، وذلوا ، ولم يظهر منهم أدنى ممانعة؟
[٤٥] أي : (قُلْ) يا محمد ، للناس كلهم : (إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) أي : إنّما أنا رسول ، لا آتيكم بشيء من عندي ، ولا عندي خزائن الله ، ولا أعلم الغيب ، ولا أقول إني ملك ، وإنّما أنذركم بما أوحاه الله إليّ ، فإن استجبتم ، فقد استجبتم لله ، وسيثيبكم على ذلك ، وإن أعرضتم وعارضتم ، فليس بيدي من الأمر شيء ، وإنّما الأمر لله ، والتقدير كله لله. (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ) أي : الأصم لا يسمع صوتا ، لأن سمعه قد فسد وتعطل ، وشرط السماع مع الصوت ، أن يوجد محل قابل لذلك ، كذلك الوحي سبب لحياة القلوب والأرواح ، والفقه عن الله ، ولكن إذا كان القلب غير قابل لسماع الهدى ، كان بالنسبة للهدى والإيمان ، بمنزلة الأصم ، بالنسبة إلى الأصوات ، فهؤلاء المشركون ، صم عن الهدى ، فلا يستغرب عدم اهتدائهم ، خصوصا في هذه الحالة ، التي لم يأتهم العذاب ، ولا مسّهم ألمه.
[٤٦] (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ) أي : ولو جزء يسير من عذابه. (لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي : لم يكن قولهم إلا الدعاء بالويل والثبور ، والندم ، والاعتراف بظلمهم وكفهرم واستحقاقهم العذاب.
[٤٧] يخبر تعالى عن حكمه العدل ، وقضائه القسط بين عباده إذا جمعهم يوم القيامة ، وأنه يضع لهم الموازين العادلة ، التي يبين فيها مثاقيل الذر ، الذي توزن به الحسنات والسيئات. (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ) مسلمة ولا كافرة (شَيْئاً) بأن تنقص من حسناتها ، أو يزاد في سيئاتها. (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) التي هي أصغر الأشياء وأحقرها ، من خير أو شر (أَتَيْنا بِها) وأحضرناها ، ليجازى بها صاحبها ، كقوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٨). (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً). (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) يعني بذلك نفسه الكريمة ، فكفى بها حاسبا ، أي : عالما بأعمال العباد ، حافظا لها ، مثبتا لها في الكتاب ، عالما بمقاديرها ومقادير ثوابها واستحقاقها ، موصلا للعمال جزاءها.
[٤٨] كثيرا ما يجمع تعالى ، بين هذين الكتابين الجليلين ، اللذين لم يطرق العالم أفضل منهما ، ولا أعظم ذكرا ، ولا أبرك ، ولا أعظم هدى وبيانا ، وهما : التوراة والقرآن. فأخبر أنه آتى موسى أصلا ، وهرون تبعا (الْفُرْقانَ) وهي التوراة الفارقة بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، وأنها (ضِياءً) أي : نور يهتدي به المهتدون ، ويأتم به السالكون ، وتعرف به الأحكام ، ويميز به بين الحلال والحرام ، وينير في ظلمة الجهل والبدع والغواية. (وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) يتذكرون به ، ما ينفعهم ، وما يضرهم ، ويتذكر به الخير والشر ، وخص المتقين بالذكر ، لأنهم