والحكمة ، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ، فله الحمد والمنة.
[١٠٦ ـ ١٠٧] (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) ، النسخ ، هو النقل ، فحقيقة النسخ نقل المكلفين من حكم مشروع ، إلى حكم آخر ، أو إلى إسقاطه. وكان اليهود ينكرون النسخ ، ويزعمون أنه لا يجوز ، وهو مذكور عندهم في التوراة ، فإنكارهم له ، كفر وهوى محض. فأخبر الله تعالى عن حكمته في النسخ ، فقال : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) ، أي : ننسها العباد ، فنزيلها من قلوبهم ، (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) ، وأنفع لكم (أَوْ مِثْلِها) ، فدلّ على أن النسخ لا يكون لأقل مصلحة لكم من الأول ، لأن فضله تعالى يزداد ، خصوصا على هذه الأمة ، التي سهل عليها دينها غاية التسهيل. وأخبر أن من قدح في النسخ ، قدح في ملكه ، وقدرته ، فقال : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). فإذا كان مالكا لكم ، متصرفا فيكم ، تصرف المالك البر الرحيم في أقداره وأوامره ونواهيه ، فكما أنه لا حجر عليه في تقدير ما يقدره على عباده من أنواع التقادير ، كذلك لا يعترض عليه فيما يشرعه لعباده من الأحكام. فالعبد مدبر مسخر تحت أوامر ربه الدينية والقدرية ، فما له والاعتراض؟ وهو أيضا ، ولي عباده ونصيرهم ، فيتولاهم في تحصيل منافعهم ، وينصرهم في دفع مضارهم ، فمن ولايته لهم ، أن يشرع لهم من الأحكام ، ما تقتضيه حكمته ورحمته بهم. ومن تأمّل ما وقع في القرآن والسنة من النسخ ، عرف بذلك حكمة الله ورحمته عباده ، وإيصالهم إلى مصالحهم ، من حيث لا يشعرون بلطفه.
[١٠٨] ينهى الله المؤمنين أو اليهود ، بأن يسألوا رسولهم : (كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) ، والمراد بذلك أسئلة التعنت والاعتراض ، كما قال تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً). وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) ، فهذه ونحوها هي المنهي عنها. وأما سؤال الاسترشاد والتعليم ، فهذا محمود قد أمر الله به ، كما قال تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). ويقرهم عليه ، كما في قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) ، و (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) ونحو ذلك. ولما كانت المسائل المنهي عنها مذمومة ، قد تصل بصاحبها إلى الكفر ، قال : (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ).
[١٠٩] ثم أخبر عن حسد كثير من أهل الكتاب ، وأنهم بلغت بهم الحال ، أنهم ودوا (لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً) وسعوا في ذلك ، وعملوا المكايد ، وكيدهم راجع عليهم ، كما قال تعالى : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٧٢) ، وهذا من حسدهم الصادر من عند أنفسهم. فأمرهم الله بمقابلة من أساء إليهم بالعفو عنهم ، والصفح ، حتى يأتي الله بأمره. ثم بعد ذلك ، أتى الله بأمره إياهم بالجهاد ، فشفى الله أنفس المؤمنين منهم ، فقتلوا من قتلوا ، واسترقوا من استرقوا ، وأجلوا من أجلوا : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
[١١٠] ثم أمرهم الله بالاشتغال بالوقت الحاضر بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وفعل كل القربات ، ووعدهم