السحر ، ويخبرانه عن مرتبته ، فتعليم الشياطين للسحر على وجه التدليس والإضلال ، ونسبته وترويجه إلى من برأه الله منه وهو سليمان عليهالسلام ، وتعليم الملكين امتحانا مع نصحهما لئلا يكون لهم حجة. فهؤلاء اليهود يتبعون السحر الذي تعلمه الشياطين ، والسحر الذي يعلمه الملكان ، فتركوا علم الأنبياء والمرسلين وأقبلوا على علم الشياطين ، وكل يصبو إلى ما يناسبه. ثم ذكر مفاسد السحر ، فقال : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) ، مع أن محبة الزوجين لا تقاس بمحبة غيرهما ، لأن الله قال في حقهما : (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) ، وفي هذا دليل على أن السحر له حقيقة ، وأنه يضر بإذن الله ، أي : بإرادة الله ، والإذن نوعان : إذن قدري ، وهو المتعلق بمشيئة الله ، كما في هذه الآية ، وإذن شرعي كما في قوله تعالى في الآية السابقة. (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) ، وفي هذه الآية وما أشبهها أن الأسباب مهما بلغت في قوة التأثير ، فإنها تابعة للقضاء والقدر ليست مستقلة في التأثير ، ولم يخالف في هذا الأصل من فرق الأمة غير القدرية في أفعال العباد زعموا أنها مستقلة غير تابعة للمشيئة ، فأخرجوها عن قدرة الله ، فخالفوا كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والتابعين. ثم ذكر أن علم السحر مضرة محضة ، ليس فيه منفعة لا دينية ولا دنيوية كما يوجد بعض المنافع الدنيوية في بعض المعاصي ، كما قال تعالى في الخمر والميسر : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) ، فهذا السحر مضرة محضة ، فليس له داع أصلا ، فالمنهيات كلها إما مضرة محضة ، أو شرها أكبر من خيرها. كما أن المأمورات ، إما مصلحة محضة ، أو خيرها أكثر من شرها. (وَلَقَدْ عَلِمُوا) ، أي : اليهود (لَمَنِ اشْتَراهُ) ، أي : رغب في السحر رغبة المشتري في السلعة (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) ، أي : نصيب ، بل هو موجب للعقوبة ، فلم يكن فعلهم إياه جهلا ، ولكنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) علما يثمر العمل ما فعلوه.
[١٠٤] كان المسلمون يقولون حين خطابهم للرسول عند تعلمهم أمر الدين (راعِنا) ، أي : راع أحوالنا ، فيقصدون بها معنى صحيحا. وكان اليهود يريدون بها معنى فاسدا ، فانتهزوا الفرصة ، فصاروا يخاطبون الرسول بذلك ، ويقصدون المعنى الفاسد ، فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة ، سدّا لهذا الباب ، ففيه النهي عن الجائز ، إذا كان وسيلة إلى محرم ، وفيه الأدب ، واستعمال الألفاظ ، التي لا تحتمل إلا الحسن ، وعدم الفحش ، وترك الألفاظ القبيحة ، أو التي فيها نوع تشويش واحتمال لأمر غير لائق ، فأمرهم بلفظة لا تحتمل إلا الحسن ، فقال : (وَقُولُوا انْظُرْنا) ، فإنها كافية يحصل بها المقصود من غير محذور. (وَاسْمَعُوا) لم يذكر المسموع ، ليعم ما أمر باستماعه ، فيدخل فيه سماع القرآن ، وسماع السنة التي هي الحكمة ، لفظا ومعنى ، واستجابة ، ففيه الأدب والطاعة.
[١٠٥] ثم توعد الكافرين بالعذاب المؤلم الموجع. وأخبر عن عداوة اليهود المشركين للمؤمنين ، أنهم ما يودون (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ) ، أي : لا قليلا ولا كثيرا (مِنْ رَبِّكُمْ) حسدا منهم ، وبغضا لكم أن يختصكم بفضله ، فإنه (ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ). ومن فضله عليكم ، أنزل الكتاب على رسولكم ، ليزكيكم ، ويعلمكم الكتاب