فسأل كلّ منهم ما بلغت أمنيته ، فأعطاهم فوق أمانيهم ، ما نقص ذلك من ملكه شيئا ، ومن غناه أنّ يده سحّاء بالخير والبركات ، الليل والنهار ، لم يزل إفضاله على الأنفاس. ومن غناه وكرمه ، ما أودعه في دار كرامته ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. (الْحَمِيدُ) أي : المحمود في ذاته ، وفي أسمائه ، لكونها حسنى ، وفي صفاته ، لكونها كلها صفات كمال ، وفي أفعاله ، لكونها دائرة بين العدل والإحسان ، والرحمة ، والحكمة. وفي شرعه ، لكونه لا يأمر إلّا بما فيه مصلحة خالصة ، أو راجحة ، ولا ينهى إلّا عما فيه ، مفسدة خالصة أو راجحة ، الذي له الحمد ، الذي يملأ ما في السموات والأرض ، وما بينهما ، وما شاء بعدهما ، الذي لا يحصي العباد ثناء على حمده ، بل هو كما أثنى على نفسه ، وفوق ما يثني عليه عباده ، وهو المحمود على توفيق من يوفقه ، وخذلان من يخذله ، وهو الغني في حمده ، الحميد في غناه.
[٦٥] أي : ألم تشاهد ببصرك وقلبك ، نعمة ربك السابغة ، وأياديه الواسعة. (أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) من حيوانات ، ونبات ، وجمادات ، فجميع ما في الأرض ، مسخر لبني آدم ، حيواناتها ، لركوبه ، وحمله ، وأعماله ، وأكله ، وأنواع انتفاعه ، وأشجارها ، وثمارها ، يقتاتها ، وقد سلط على غرسها واستغلالها ، ومعادنها ، يستخرجها ، وينتفع بها. (وَالْفُلْكَ) أي : وسخر لكم الفلك ، وهي السفن (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) تحملكم ، وتحمل تجاراتكم ، وتوصلكم من محل إلى محل ، وتستخرجون من البحر ، حلية تلبسونها. ومن رحمته بكم أنه (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) فلو لا رحمته وقدرته ، لسقطت السماء على الأرض ، فتلف ما عليها ، وهلك من فيها (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (٤١). (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أرحم بهم من والديهم ، ومن أنفسهم ، ولهذا يريد لهم الخير ، ويريدون لأنفسهم الشر والضر. ومن رحمته ، أن سخر لهم ، ما سخر من هذه الأشياء.
[٦٦] (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) وأوجدكم من العدم (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) بعد أن أحياكم. (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بعد موتكم ، ليجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته. (إِنَّ الْإِنْسانَ) أي : جنسه ، إلّا من عصمه الله (لَكَفُورٌ) لنعم الله ، كفور بالله ، لا يعترف بإحسانه ، بل ربما كفر بالبعث وقدرة ربه.
[٦٧] يخبر تعالى أنه جعل لكلّ أمّة منسكا أي : معبدا وعبادة ، قد تختلف في بعض الأمور ، مع اتفاقها على العدل والحكمة ، كما قال تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) الآية. (هُمْ ناسِكُوهُ) أي : عاملون عليه ، بحسب أحوالهم ، فلا اعتراض على شريعة من الشرائع ، خصوصا من الأميين ، أهل الشرك ، والجهل المبين. فإنه إذا ثبتت رسالة الرسول بأدلتها ، وجب أن يتلقى جميع ما جاء به بالقبول والتسليم ، وترك الاعتراض ، ولهذا قال : (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) أي : لا ينازعك المكذبون لك ، ويعترضوا على بعض ما جئتهم به ، بعقولهم الفاسدة ، مثل منازعتهم في حل الميتة ، بقياسهم الفاسد يقولون : «تأكلون ما قتلتم ، ولا تأكلون ما قتل الله». وكقولهم : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) ونحو ذلك من اعتراضاتهم ، التي